في دوحة الإسلام (61)
في دوحة الإسلام (61)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 24/3/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
صدق النيّة
روى البخاري ومسلم بسندهما عن عمر بن الخطاب أن الرحمة المهداة ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: « إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرتُهُ إلى الله ورسولهِ فهجرته إلى الله ورسولهِ، ومن كانت هجرتُهُ لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ( أي يتزوجها ) فهجرتُهُ إلى ما هاجر إليه ».
وصف الإمام الشافعي هذا الحديث بأنه ثُلْثُ العلم، وعَدّه الإمام أحمد بن حنبل من الثلاثة أحاديث التي تشير إلى أصول الإسلام.
ونفهم من هذا الحديث الشريف أن لكل عملٍ نيّة، وأن العمل مرتبطٌ بالنيّة التي دفعت إليه. فالعلم مقرون بالعمل، والعمل مقرون بالنيّة..
قد يستطيع الإنسان أن يزيف على الناس، ويستعرض ويظهر غير ما يبطن، ولكن الله تعالى عَلاَّم الغيوب، يعلم خائنة الأعين وما تخفيه الصدور.. ويعلم ما انعقدت عليه النفوس، واتجهت إليه الأعمال..
هذا يُعَلّم الناس أن العمل الذى يراد به وجهُ الله، يصادق غايته ومقصده، فالنيّة هي المُوجدة للعمل، الدافعة إلى حصوله ـ ومما روى عن الإمام أحمد: « أحبُّ لكلِّ من عمل عملاً من صلاةٍ أو صيامٍ أو صدقةٍ أو نوعٍ من أنواع البر، أن تكون النيّة في ذلك متقدمة في ذلك قبل الفعل ».
صلاح العمل أو فساده، مرتبط بصلاح النيّة أو فسادها. من هاجر إلى الله ورسوله فقد هاجر إلى الله ورسوله، ومن هاجر إلى دنيا يريدها فهجرته إلى ما هاجر إليه..
ولولا قيمة النيّة، ما أعفي حَسَنُ النية من خطئه إذا كان في حالة ضرورة.. ففي الحديث الشريف: « الضرورات تبيح المحظورات ».. وهي لا تكون ضرورة ما لم تكن النيّة سليمة صالحة متجهة إلى الله، فتعذر عما لا تستطيع تجنبه أو تفاديه.
يقول الله تعالى في كتابه العزيز:
ــ « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ » ( البقرة 173)
ــ « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ » ( الأنعام 145 )
ــ « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ » ( النحل 115 )
صدق الله العظيم
* * *
النيّة قصد وإرادة أو صِدق النيّة إخلاص، والإخلاص هو لب الإيمان والعمل.
العمل لا يقع موقعه المأمول، إلاَّ إذا كان خالصًا لوجه الله عز وجل، بريئًا من الأغراض والشوائب.
يقول الحق سبحانه وتعالى:
« وَمَا أُمِرُوا إِلاَ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ » ( البينة 5 )
الدين القيم هو تمحيص الوجه لله تعالى، والإخلاص في القصد إليه في كل الظروف والأحوال.
روى أن رجلاً سأل الهادي البشير يومًا: « إنَّا نعطى التماس الذكر فهل لنا من
أجر ؟ قال عليه الصلاة والسلام: لا. إن الله تعالى لا يقبل إلاَّ من أخلص له، ثم تلا عليه قول الخالق جل شأنه: « إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * ألاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ » ( الزمر 2، 3 ) »
من خلصت نيته لا يختلط عمله بالرياء والنفاق..
من الأعمال ما يراد به الدنيا، ومنها ما يراد به وجه الله والآخرة.
يقول لنا تبارك وتعالى:
« مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ » ( آل عمران 152 )
ويعد سبحانه وتعالى هؤلاء وأولاء، فيقول في كتابه العزيز:
« مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ » ( الشورى 20 )
صدق الله العظيم
* * *
عارض أبو ذر الغفاري ما رآه مخالفًا للإسلام، دون أن يبادر إلى عداوة، بل يحرص على بيان حجته.. فلما سأله معاوية.. « مهلاً يا أبا ذر.. ما الذى أوجدك علينا ؟ ». قال له: « يا معاوية إن أموال الفيء من حقوق المسلمين، وليس لك أن تختزن منها شيئًا، ولكنك خالفت الرسول وأبا بكر وعمر، وكنزتها لك ولبنى أمية.. »
ولأن الصدق هو مُهجة أبى ذر، بقى على الدوام عزيزًا صامدًا مترفعًا ورافضًا لكل المُغريات.. ذهب إليه مبعوث بثلاثمائة دينار يقول له إنها من الأمير حبيب بن مسلمة، ليستعين بها على حاجته، فرده قائلاً:
« ارجع بهــا إليه يا بنى.. أما وجد أحدًا أغر بالله منا !.. مالنا إلاّ ظل نتوارى بـه، وثلـة غنم تروح علينا، ومولاة لنا تصدقت علينا بخدمتهـا، ثم إنى لأتخوف الفضل ! »
* * *
وزهد أبى ذر أشيع من أن تُحصيه أخبار، فهو خصلة أصيلة من خصاله بقى عليهـا حتى مات !!.. يعتصم بها أمام مُغريات الدنيا، لا يضعف ولا ينى ولا ينكص.. يقــول لمعاوية حين يشتد عليه مهـددًا.. « قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا.. والذى نفسى بيده لو وضعتم السيف في عنقي، ثم ظننت أنى منفذ كلمة سمعتها من رسول الله قبل أن تحتذوا لأنفذتها »!!. وهــذا التعانق بين « صدق » الرجل « وزهده » « واستغنائه » وقوة إيمانه وشجاعته، هو الذى أعطاه هذه القوة الدافقة المُشعــة التي لا ترصد عليها هنة واحدة من تراجع أو مُلاينة أو مُصانعة أو مُداهنة.. وإنما هو هو الذى أعطاه إيمانه قُدرة على زهده، وأعطاه زهده استغناء عن المفاتن والمُغريات، ومَكًنَهُ هذا الاستغناء ـ مع صدق مهجته ـ مـن أن يهب نفسه لما يقتنع به بلا حسابات المصالح ولا موازين المنافع، غير وجل ولا هياب !
* * *
لم يجزع أبو ذر حين حمله معاوية من الشام إلى المدينة ـ خلافًا لكتاب عثمان الذى أمره بالترفق به ـ على بعير ضامر على ظهره قنب يابس أدمى أفخاذه.. وقليل من متاع خشن، في حراسة أجناد صقالبة جفاة.. لم يزد، عتابًا لعثمان حين وصل المدينة، ـ عن أن يقول له: « لقد أغلظت علينا العزيمة يا أمير المؤمنين !!.. والله لو عزمت على أن أحبو لحبوت. والله ما أنا منهم يا أمير المؤمنين ! ».
فلما سأله عثمان: « ما لأهل الشام يشكون ذرب لسانك ؟ »
قال: « والله ما قلت إلاّ ما أعلم من كتاب الله وسنة رسوله.. كان معاوية يقول مال الله، كأنه يريد أن يحتجنه عن الناس، فعزمت عليه أن يقول مال المسلمين.. وعتبت عليه إسرافه في بناء الخضراء.. وقد كنز الناس فبشرتهم بمكاوٍ من نار، ودعوتهم إلى أن يواسى الأغنياء الفقراء ».
* * *
ــ قيل لأحد الصوفية: ألا تشتهي ؟
قال: أشتهي عافية يوم إلى الليل.
فقيل له: أليست الأيام كلها عافية ؟
قال: إن عافية يومي ألاَّ أعصى الله فيه.
* * *
دخل أحدهم على الصوفي عبد الرحمن الدارانى، فوجده يبكى فسأله ما يبكيك ؟!
قال: ولمَ لا أبكى.. وإذا جنّ الليل، ونامت العيون، وخلا كل حبيب بحبيبه، وافترش أهل المحبة أقدامهم، وجرت دموعهم على خدودهم، وتقطرت في محاريبهم، وأشرف الجليل سبحانه وتعالى، فنادى: « يا جبريل، بعيني من تلذّذ بكلامي واستراح إلى ذكرى، وإني لمطّلع عليهم في خلواتهم.. أسمع أنينهم.. وأرى بكاءهم، فلمَ لا تنادى فيهم يا جبريل:
ــ ما هذا البكاء ؟ هل رأيتم حبيبًا يعذب أحباءه ؟ ».