الإنسان المكلف في الإسلام

الإنسان المكلف في الإسلام

نشر بجريدة الشروق الخميس 25/3/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

القرآن الكريم كتاب تبليغ وإقناع وتبيين.. وقوام هذه الفضيلة فيه التوافق التام بين أركانه وأحكامه، وبين عقائده وعاداته، وبين حجته ومقصده.. فكل ركن من أركانه يتنزل فيه بأقداره، ويوافق في تفصيله سائر أركانه التي تتم به أو يتم بها، على قدر مبين.

وأمثلة ذلك في الكتاب الكريم عديدة واضحة.. قاطعة في بيانها وأحكامها.

فالتكليف ـ بداهة ـ يرتبط بالمسئولية، ويستند عليها.. والمسئولية لا تقوم بغير عقل يتلقى التبليغ والعلم ويهيئ النفس ـ بذلك ـ للعمل بما تكلف به..

ولذلك..

ليس أتم ولا أعجب في القرآن من هذا التوافق التام فيه بين تمييز الإنسان بالتكليف، وبين خطاب العقل بكل وصف من أوصافه، وكل وظيفة من وظائفه وملكة من ملكاته.. فالعقل بكل المعاني التي عرفت له موصول في الكتاب المبين بكل حجة من حجج التكليف وكل أمر بمعروف أو نهي عن منكر.. أفلا يعقلون ؟ أفلا يتفكرون ؟ أفلا يبصرون ؟ أفلا يتدبرون ؟ أفلا تتذكرون ؟

وخليق بالمسلم، وبكل دارس للأديان، أن يتنبه إلى هذه الفضيلة التي لا تراها في غير القرآن من كتب الأديان.

فالبشرية لم تعرف قط قبل الإسلام تمييز الإنسان بخاصة التكاليف وإعداده لخطاب العقل وتبيان الإقناع.. وكانت الأمم قبل البعثة المحمدية تفهم النبوة على أنها استطلاع للغيب وكشف للأسرار والمخبآت.. كان منهم من يحسبها مجرد وساطة بين المعبود وعباده للتشفع إليه بالهدايا والقرابين.

ثم جاء الإسلام ليضع الإنسان في أشرف مكان له في ميزان الفكر وميزان الخليفة.. فهو الكائن المكلف.. يخاطب فيه صفته الباقية.. وهي خاصة النفس الناطقة والضمير المسئول.. الضمير الذى يحمل تبعته.. لا تغنيه عنها شفاعة ولا كفارة من سواه.

إنها نبوة فهم وهداية، وليست نبوة استطلاع وتنجيم.. هداية بالتأمل والنظر والتفكير، وليست بالخوارق والأهوال التي تروع البصر والبصيرة وتفزع الضمائر بالتخويف والإرهاب.. فهي نبوة مبشرة منذرة لا تملك لهم نفعًا ولا ضرًا إلا ما يعملونه من خير أو شر بمشيئتهم.

« قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » ( الأعراف 188 )

لذلك عندما جاءت سمعة المعجزة سهلة ميسرة لصاحب هذه النبوة، يوم مات ابنه إبراهيم وكسفت الشمس، وظن الناس أنها كسفت لموته، أبى محمد الصادق الأمين أن يسكت عليها، وأعلمهم أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته.

بذلك أغلق سلطان الأحبار، كما أسدل الستار على سلطان النبوات بالمعجزات وخوارق العادات !!

لذلك..لا يسقط التكليف عن العاقل أن يطيع المتحكمين بطغيان الحكم أو طغيان الكهانة.. ولا يمنعه التكليف أن يسأل من يعلم إذا غاب عنه العلم. لأن طلب العلم يحقق واجب التكليف ولا يعطله أو يلغيه.

والروح إحدى العقائد الغيبية في القرآن..

والعقائد الغيبية أساس عميق من أسس التدين. تقوم عليه كل ديانة يطمئن إليها ضمير الإنسان.. ولكن الفضيلة الكبرى في عقائد القرآن الغيبية أنها لا تعطل عقول المؤمنين بها، ولا تبطل التكليف بخطاب العقل المسئول.

روح وجسد

عقيدة الروح في القرآن، هي إحدى العقائد « الغيبية » التي تلمس فيها هذه الفضيلة.. ذلك بأن الإيمان بالروح لم يفرض على العقل البشرى في هذا الكتاب بصورة تنفصم بها النفس البشرية بفاصم من الحيرة بين خلق الإنسان روحًا وخلقه جسدًا.

فالروح والجسد في القرآن الكريم.. ملاك الذات الإنسانية.. تتم بهما الحياة، ولا غناء في أحدهما عن الآخر.. لكلاهما حقه في عقيدة الإسلام.. عقيدة على هدايةٍ واحدة.. نحس بالروح كما نحس بالجسد.

وقد كثر جدل حكماء اليونان وفلاسفته من قديم حول العقل والروح والجسد.. ورتبوها على حسب صفائها وعلو جوهرها.. فكان العقل عندهم أولها وأشرفها. لأن جوهر العقل المطلق هو الله جل شأنه، والعقل الإلهي هو العقل الفعال المنزه عن المادة، ثم تأتى الروح والنفس بعد ذلك.. الروح أقرب إلى عنصر النور، والنفس أقرب إلى عنصر الهواء والتراب.

أما كمال هذه القوى في لغة القرآن، فإنه مقيس إلى كمال الله عز وجل.. أرفعها وأشرفها ما كان أقربها إلى الصفات الإلهية، وأدناها ما كان أبعدها عن تلك الصفات.

والمقابلة في القرآن بين هذه القوى توحى بأن الروح.. وهو الجانب الذي استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه.. هو أقربها إلى الحياة الباقية، وأخفاها عن المدارك الحسية، لأنه سر الوجود المطلق.

« وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً » ( الإسراء 85)

النفس والعقل

أما العقل، والنفس.. فالراجح في بيان القرآن أن النفس أقربهما إلى الطبع والقوة الحيوية التي تشمل الإرادة كما تشمل الغريزة، وتعمل واعية كما تعمل غير واعية.

والعقل.. يتوسط بين القوتين.. الروح، والنفس، فهو وازع للغريزة، ومستلهم لهداية الروح.

فالإنسان يعلو على نفسه بعقله، ويعلو على عقله بروحه، فيتصل من جانب النفس بقوى الغرائز الحيوانية ودوافع الحياة الجسدية، ويتصل من جانب الروح بعالم البقاء وسر الوجود الدائم، وعلمه عند الله.. وحق العقل أن يدرك ما في وسعه وطاقته من جانبه المحدود، ولكنه لا يدرك الحقيقة كلها من جانبها المطلق إلا بإيمان وإلهام.

وفي القرآن الكريم خطاب متكرر إلى العقل.. وبيان متكرر لحساب الإنسان العاقل على الخير والشر، مع إسناد الإرادة إليه.. وهناك آيات أخرى صريحة تسند الإرادة إلى الله الخالق الفعال لما يريد.. فكيف تجد مسئولية الإنسان طريقها المبنى على الإرادة من خلال ذلك ؟

التكليف والحرية

من شروط التكليف طاعة وحرية.. وهذه بديهية يغفل عنها كثير من المجادلين في قضية الإيمان، وفي قضية التكليف والجزاء، فيقصرون النظر على شرط الحرية، ويهملون شرط الطاعة، كأنه مناقض للجزاء، وكأنه من اللازم عقلاً أن يكون الجزاء مقرونًا بالحرية المطلقة.

فالحرية المطلقة.. لكل مخلوق.. استحالة عقلية.. والإرادة الوحيدة المطلقة هي إرادته جل شأنه.. أما إرادة الإنسان فليست مطلقة من كل القيود، ولا يمكن أن تكون كذلك.. لأن إرادة هذا شأنها هي في حقيقتها قيد على كل إنسان سواه.

لا يمكن أيضًا أن يكون الحكيم الخبير قد خلق الناس مكلفين بغير إرادة لهم على الإطلاق.

هي إذن الإرادة المخلوقة التي يودعها الخالق في الإنسان كما ينبغي أن تودع.. إرادة ولكنها ليست مطلقة من كل القيود.

والحرية المخلوقة حرية صحيحة.. ولا يقال إنها ليست بحرية.. لأنه لا معنى للحرية من وراء إرادة الخالق وإرادة المخلوق.

ومن خلال هذه المعاني البارزة تجد إرادة الإنسان وحريته، طريقها.. إرادة مخلوقة وحرية مخلوقة بالقدر الذي يجعلها أهلاً للمسئولية والتكاليف.

وقضية الخلق.. خلق الإنسان ومكانه بين أبناء نوعه البشرى.. آخر القضايا التي يعرض لها العقاد في عقيدة القرآن الكريم.. ليخلص في نهاية بحثه ـ الوافي الشائق لما قالته مذاهب الفكر والعلم، والتطور والنشوء في هذه القضايا ـ يخلص إلى كمال عقيدة القرآن، وكيف يجد الإنسان في رحابها مكانته اللائقة التي هي أشرف مكانة لمخلوق في ميزان الفكر وميزان الخليقة.

فهي عقيدة لا تنزل بالإنسان إلى مستوى العملة الاقتصادية في سوق التجارة والصناعة.. تعلو وتهبط بمعايير العرض أو الطلب.

وهي عقيدة لا تزعم أن الإنسان من عنصر سيد، وآخر مسود..

وهي لا تنكر الإنسانية وتدعى أنها شيء لا وجود له، ووهم من الأوهام، وأن الموجود حقًّا هو الفرد الواحد !

زر الذهاب إلى الأعلى