أقدار !
أقدار !
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 6/3/2021
بقلم: رجائي عطية نقيب المحامين
في 17 سبتمبر 1959، تقدمت إلى منطقة تجنيد الإسكندرية، يحدوني الأمل في أن أعود إلى مكتب أبي بشبين الكوم لأستأنف معه العمل بالمحاماة التي بدأت أولى خطواتها منذ حلف اليمين أمام المستشار محمود عبد اللطيف ـ يرحمه الله، في 19/8/1959.. ولأنه سبق أن أجريت في الأربعينيات عملية فتق إربي، واستجد آخر في الناحية المقابلة، ارتأى الدكتور الفاحص الأول بالقومسيون الطبي أني غير لائق للخدمة العسكرية.. ومكثت في انتظار تصديق رئيس القومسيون قرابة ثلاث ساعات طفق الأمل يداعبني فيها أن ألحق بديزل العصاري إلى طنطا، ومنها إلى شبين الكوم.. ولكن رئيس القومسيون أشر بأنني لائق، وعليه انتقلت في غمضة عين من القومسيون الطبي إلى معسكر الاستقبال بذات معسكرات مصطفي باشا بالإسكندرية.
كنا دفعة من المؤهلات العليا.. التقانا يومها ضابط برتبة مقدم، دَفَعه إشفاقه علينا من صدمة الانتقال السريع من الحياة المدنية إلى الخدمة العسكرية الشاقة بأوامرها الصارمة، إلى أن ينصحنا ونحن جلوس أمامه على الأرض، بأن ننسى شهاداتنا على الباب قبل دخول المعسكرات.. فحضورها النفسي سيجعل الاستجابة للأوامر العسكرية ومصدريها عملية عسيرة إذا ما ظلت الأمور محكومة في داخلنا بفوارق الشهادات !
وسرعان ما أدركت حكمة نصيحته.. فقد تسلمنا بعد دقائق رقيب جمعنا حوله في صورة مربع ناقص ضلع، وأمام أكوام من المهمات التي كان علينا أن نتسلمها لنخلع الزي المدني ونرتديها.. فجعل يسلمنا صنفًا صنفًا وينادي: ويتمم على كل عسكري مفترضًا أنه لا يفقه شيئًا !! ظللنا على هذه الحال نحو ساعتين حتى فرغنا من الاستلام وملء « المخلاة » بالملابس العسكرية الجديدة التي كان لابد من تقييفها لتناسب مقاس وطول كل منا.. كان الغروب قد زحف حينما استطعت أن أستأذن من الرقيب عزازي ليسمح لي بالمبيت بالخارج لصباح اليوم التالي الذي كان علينا أن نسافر فيه بالقطار لترحيلنا إلى منطقة تجنيد القاهرة..
بدا لي يومها أنني قد سقطت من شاهق.. كنت قد خطبت منذ 30 أكتوبر 1958 أثناء الليسانس، تداعبني آمال عريضة في سرعة التهيؤ لإتمام الزواج بعد أن جاءت الأيام الأولى مبشرة في المحاماة إلى جوار أبى الذي كان ـ رحمه الله ـ واحدًا من عظمائها. تخرج عام 1925 منذ ذات الكلية التي تخرجت فيها إبان أن كان اسمها مدرسة الحقوق الملكية.. استقبلني ـ رحمه الله ـ واستقبلتني المحاماة بترحاب، واقترب الأمل في عقد القران.. ثم إذ بي فجأة جندي مستجد، يرتدى « أوفرأول » مهرول يحتاج إلى تقييف كبير بلغة العسكر، وحذاء بيادة ثقيل.. أقف في طابور صباح 18/9/1959 أمام الرقيب عزازي ليقودنا من معسكرات مصطفي باشا إلى محطة سيدي جابر يحمل كل منا « مخلاته » سيرًا على الأقدام التي جعلت تدق على الأسفلت، تطالعنا العيون الفضولة من على المقاهي والأفريز، وأخرى تطل علينا من شرفات ونوافذ المنازل المصطفة على جانبي الشارع.. على محطة سيدي جابر، جلس كل منا على « مخلاته ».. ومكثنا نحو ساعة ونصف قبل أن نركب درجة ثالثة في القطار القشاش الذي يقف في جميع المراكز، حتى وصلنا إلى محطة باب الحديد نحو الخامسة، ومنها إلى قطار آخر من محطة كوبري الليمون.. أمضى مع رفاق الجندية رافعين على الأكتاف « مخلاة » كل منا، مارين على الأقدام في ذات الميدان الذي سبق أن شاهد عياقة الشباب التي كنا نتخايل بها أيام الدراسة.. ولكن في محطة النزول بالزيتون كانت المفاجأة الأكبر.. لم يجد الرقيب عزازي اللواري التي كان مفروضًا أن تقلنا من المحطة إلى منطقة التجنيد التي تبعد عدة كيلومترات.. لم يكن هناك بد من أن نقطعها مشيا في طابور حاملين مهماتنا ننوء بوزنها وبثقل الأحذية البيادة التي لم نتعودها.. حتى استقر بنا المقام بمعسكر استقبال القاهرة ليبدأ الطائر رحلة جديدة استمرت في القوات المسلحة والقضاء العسكري ستة عشر عامًا مليئة بالأحداث والذكريات قبل أن يعود الطائر إلى المحاماة التي عشقها وعشقته وأمضى فيها عمره !