حول «الأنا» ما بداخلها وما حولها (3)

من تراب الطريق (1038)

حول « الأنا » ما بداخلها وما حولها (3)

نشر بجريدة المال الخميس 11/2/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

لا تستطيع دولة بمفردها، بالغة ما بلغت من القوة والسؤدد، والعلوم والمعارف، إيقاف إنتاج أو تجفيف مخزون أسلحة الدمار الشامل، التي جعلت الدول الكبرى وأنصافها تتسابق تسابقًا مجنونًا في إنتاجها وتشوينها حتى بات يتردد أن إسرائيل ــ صنيعة الغرب ــ تمتلك وحدها في ترسانتهـا النووية ما يكفي لتدمير نصف الكرة الأرضية !

وإنما قد يتصور العقل، ويطيق العمل، أن تتعارف الجماعة الدولية، وأن تتوافق وتتعاون على إقامة نظام يوفر في ظله الحياة البشرية لعموم البشر.. الحيـاة العادلة المتوازنة المعقولة التي تلغى من كل عقل وتدبير ـــ فكرة أسلحة الدمار الشامل والحاجة إلى التترس أو التخويف أو الإرهاب بها، أو استعمالها . حين يستقيم نظام الحياة في توازن بغير تحيف، تتوارى مثل هذه النوازع المهلكة لبنى البشر.. هذه النوازع التي لم تفارقنا ولم تفارق آباءنا الماضين منذ آلاف السنين، ولم تفارق دنيانا على الأرض التي شغلنا فيها تخطف الأرزاق والتصارع على السبق والأوضاع والمراكز والأوصاف والأماكن والأصول والأنساب والأمجاد.. هكذا غرق البشر من آلاف السنين في هذا التخاطف والتصارع، يتعرضون على الدوام لمهانة أغلبيتهم الغالبة وازدرائها واختلاط أحيائها المطرد بموتاها.. اختلاط حثالة الحَبّ وقشره بالحصى والتراب.. لأن هذه الأغلبية بالقياس إلى مستوى الحضارة الحالي والعالي ـــ ما زالت شديدة الجهل.. إذ يرجع بقاء تأخر البشر بعامة حتى الآن إلى استمرار جهل غالبيتهم في كل مكان على الأرض، وتعويق هذا التأخر الغالب لانتقال حضارتنا الحالية إلى حضارة تامة اليقظة لا تقر الجهل ولا تدع أغلبيتها تعتمد عليه !

نقول إن هذه الحضارة المرتقبة الآن على الأبواب ـــ امتدت إليها وستزيد امتدادًا أيدى وعقول العلماء وبعض المتعلمين المثقفين للعلوم الوضعية، للانتفاع الجاد من استغلال منافع الفضاء الواسع وما فيه من القوى ومن الاتصال الدائم الذي لا أول له ولا آخر بعالم الكون الزاخر بالمواد والطاقات والمعارف التي نحن الآن على مشارف بعضها.. لا يلتفت إليها إلاّ أقل القلة من الناس، وقد تهلل الأغلبية دون أن تعي لبعض ما يروى عن ذلك في الصحف أو القنوات أو الإذاعات أو على الألسن من الطرائف والزخارف.. ومع ذلك فالجادون القليلون مجتهدون يزيدون عددًا يومًا بعد يوم، لكنهم أقل بكثير من أن يثيروا حماس الأغلبية الغالبة في أي جماعة إلى الاشتراك الفعلي والمساهمة في هذه الجهود . ونحن إن عشنا ـــ برغم

ما نحن عليه وفيه الآن من المخاطر التي لا حدود لها ـــ فلابد أن يشتعل ذلك الحماس وتنتقل البشرية من عبوديتها للأرض التي طال عليها القدم ـــ إلى نهضة شابة غير مسبوقة تنسى الآدميين جميعًا أحداث ذلك الماضي الطويل العكر وحاضره الحالي الكئيب !

فنحن تُبّع لمخاوفنا.. لأننا إلى الآن تُبّع لعواطفنا، ولسنا تُبّعًا لعقولنا.. وحين نهتدى إلى هذه النهضة الشابة سينقلب الميزان، ولن تتحكم العواطف قط في عقولنا وتستخدمها في مآربها كما هو حالها الآن !

ومن الملاحظ المعروف أن غالبية الناس الساخطة اليائسة اليوم، تتقن بالفعل أعمالاً نافعة مفيدة تحتاجها هذه النهضة الشابة.. ومن هذه الغالبية كثيرون على علم وخبرة وطول نفس وصبر.. يحسنون الكثير من تلك الأعمال الهامة الدقيقة.. يمكنهم هم وأمثالهم معهم وبعدهم المداومة على استمرار نجاح هذه النهضة إلى ما لا حد له .

فلماذا إذن لا نترك ما نحن فيه الآن من شدة الضوضاء والصخب وضجيج الغوغاء ودوام الادعاء والالتواء وكثرة الانتقاد والأحقاد.. ولماذا لا نكف عن الجري وراء القوة وهى قصيرة الأمل، وعن الحرص على اقتناء الثروة الزائفة المختلقة المحترقة التي يفقدها مقتنوها في أية لحظة من نهار أو ليل، وقد لا يصل إليها المتكالب عليهـا إلى أن يفارق الحياة ؟ وكلنا يعلـم علم اليقين أنه فانٍ.. لا يحفظ ولا يستطيع أن يحفظ ما جنى أو ترك ولا أن يحقـق بعده ما

لم يحققه هو لنفسه.. إلاّ أن يكون هذا إصرارًا ــ لا يقبله عقل العاقل ـــ على دوام الجنس ( في كل أنا ) لكل حي !!!

والكون على عظمته وما يحتويه من قوى ومواد وطاقات وما نسميه نحن الآن من علوم الطبيعة والكيمياء والفلك ومن الإلكترون والبروتون والنيوترون والكم والموجات والذرات والعناصر والمركبات والجوامد والسوائل والغازات ومن المجرات والنجوم والكواكب والمذنبات.. إلخ ـ هذا الكون العظيم ليس له هو ذات ولا نفس، لكنه يجمع الكل من غير الحىّ والحىّ والله تعالى أعلم.. لأننا لا نقول إلاّ ما عرفناه من غيرنا ثم ما بنيناه على ما فهمنا منه.. ونحن كلنا كجنس على هذه الأرض وحدنا.. ننظر حتى اليوم إلى المجرات والنجوم والكواكب والأقمار والمذنبات بمناظيرنا الآلية الضخمة كما تبدو لنا الآن . لم نقترب بعد منها إلاّ مسافات محدودة، وستظل محدودة، مهما قربت تلك المسافات.. لأننا جنس لا ينسى ( أناه ) أيش فرد من أفراده قط.. اللهم إلاّ في بعض التضحيات.. وفيها من يضحى معتقدًا أن تضحيته ستبقى مسجلة باسمه أبد الدهر إلى غير نهاية !!

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى