أثر المحيط، وظهور النوابغ والأفذاذ

أثر المحيط، وظهور النوابغ والأفذاذ

نشر بجريدة الوطن الجمعة 22 / 1 / 2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

لا يمارس الآدمي في أي زمان ومكان، لا يمارس اختياراته الشخصية إلاّ من خلال ما عرفه نوع معرفة من اختيارات الناس.. سواء المعاصرين له أو الذين سبقوا وسلفوا في أزمنة ماضية لا سبيل إلى تقصيها أو تقصيهم.

فعقلي أو عقلك منذ بداية البداية لا يعمل إلاّ في محيط بشرى.. أو بعبارة أكثر دقة في محيط من اختيارات لعقول بشرية معاصرة أو ماضية.. بعضها قد يكون معروفا له أو قابلا للمعرفة، وغالبها مجهول تماما لا يمكن التعرف عليه بأية وسيلة.. فلزوم هذا المحيط البشرى وملازمته لحياة كل آدمي متحضر أو همجي من ساعة مولده إلى لحظة وفاته، هو كلزوم وملازمة المحيط الطبيعي الذي يولد أو يعيش أو يموت فيه لا يفارقه إلاّ بمفارقة الحياة نفسها.

ويبدو أن هذا ملحوظ في تركيب وسعة وكفايات المخ البشرى، وملحوظ في تشابه العقول الذي يسمح للزنجي أن يفهم مراد الصيني والأوروبي والتعلم منه، وأن يقرأ الهندي ويتذوق شعر الأمريكي وأدب الياباني وفولكلور الإسكيمو، ويتيح لكافة أهل الأرض سماع الإذاعات بمختلف اللغات واللهجات وفهمها.. وهذا ملحوظ أيضا في زيادة استجابة عالم الطبيعة لحسابات الآدميين الرياضية وقواعدهم الفيزيائية والكيماوية والفلكية وقياساتهم حسب اصطلاحاتهم ورموزهم.. وهو ما يعطى لمخ الآدمي وعقله ـ بقدر ما ـ طابعا كونياً يتجاوز موضع الإنسان على هذه الأرض وانتسابه إلى أشقائه في عالم الحيوان.

وفردية اختيار الآدمي دائما فردية اقتطاف من حقل أو حقول أعم داخله وخارجه، وقد تجرى مع الاقتطاف إضافات تضيفها اجتهادات واستعدادات ومواهب خاصة في الفرد.

وإذن فكل إنتاج لفرد أيًا كان وكانت موهبته هو، أو عبقريته هـو، أو نعمة الله عليه هو ـــ معظمه من ذلك الاقتطاف أي من ذلك الحقل الأعم الماضي والمعاصر.

فالبشرية لها قادة بلا شك.. نعرف بعضهم ونجهل معظمهم، لكن ليس لها صناع أو صانعون معينون صنعوا أو يصنعون اختياراتها.. فهذه غير قابلة لتحديد المصدر بأي يقين. وهو أمر يشهد به بشدة ـ اختلاف التاريخ والنظم والعقائد والحضارات.

هذا وقد لفتت قوة تأثير ذلك المحيط البشرى في تقدم المعرفة ـ لفتت أنظار الآدميين من قديم، ودعتهم إلى إنشاء المدارس والمعاهد والمكتبات والمراصد، ثم دعتهم في العصر الحديث إلى استخدامها بطريقة منظمة دائمة في حل المشاكل المعينة التي تبدو أكبر أو أعجل من أن تترك للاختيارات الفردية.. فجمعت الكفايات في الموضوع الواحد أو في المواضيع المختلفة المتصلة.. جمعت هذه الكفايات لتعمل معًا أو بالتعاون ـ في معامل أبحاث أو مؤسسات مستقلة أو تابعة لجامعات أو لشركات، وزودت بالأموال الضخمة التي تلزمها والتي لا قبل للأفراد بها. وقد أنتج ذلك نتائجه الهائلة في العلوم والفنون والتقنيات والصناعات، وإليه يرجع ما نرى الآن صداه في حياة الناس !

على أن أثر المحيط، وإن كان يبدو وله دور في تكوين إمكانيات وكفاءة الأوساط فأقل، إلاَّ أنه لا يكفي بذاته لظهور النوابغ والأفذاذ من أصحاب الرسالات أو القديسين أو الأئمة أو الشهداء، أو من العلماء والمفكرين والفنانين وكل من يخرج من بحر العاديين ليشكل قيمة متميزة متفردة تبذ وتبرز بنبوغها وتفردها !

ظني أنه لابد لذلك مما أسميه «فائض إحساس» غير عادي بالصدق والاستقامة لكل صاحب رسالة روحية.. نبيًا كان أو وليًا أو قديسًا أو إمامًا أو شهيدًا.

ولابد من «فائض إحساس» غير عادى بالحقيقة لمن كان عالمًا ـ قديمًا أو حديثًا ـ بعلم أو أكثر من العلوم الطبيعية أو الكيميائية أو الطبية أو الهندسية أو الاجتماعية.

ولابد من «فائض إحساس» غير عادي بالجمال للفنان رسامًا كان أو نحاتًا أو مصورًا أو بَنَّاءً أو ملحنًا أو ممثلاً أو مخرجًا.. شاعرًا كان أو ناثرًا أو قصاصًا.. موسيقيًا مؤلفًا كان أو عازفًا.. إيقاعيًا كان أو راقصًا أو تعبيريًا بأي نحو من الأنحاء..

هذا «الفائض» غير العادي في الإحساس، هو القاسم المشترك بين الإمام والعالم والفنان والأديب والشاعر.. من هذا الفائض غير العادي في الإحساس يتشكل وجدان كل منهم وانطباعه بموضوعه وأهميته، ينمو ويزداد وجوده وعطاؤه إذا صادف ظروفًا ملائمة مبكرة أو حتى متأخرة للنمو والتطور.. وقد يختنق ويموت إذا حاصرته ظروف معاكسة تناوئ وتقوض وتميت ما لديه.. شأن أي موهبة لا تصادف الأرض والمناخ المناسب لنمائها وازدهارها.

أما جمهور الإمام أو العالم أو الفنان أو المفكر أو الأديب أو الشاعر، فإن القدر المشترك بين هذا الجمهور هو وجود الإحساس المعتاد وجوده لدى الإنسان العادي ـ بالصدق والاستقامة أو بالحقيقة أو بالجمال.. هذا الإحساس الذي يقبل الإيقاظ لوقت يقصر أو يطول.. يتلقى فيه الإشباع بما يحبه ـ لدى كل من هؤلاء ـ من الموهبة والعطاء الناجم عن فائض الإحساس غير العادي..

هذا الفارق بين أولئك الموهوبين وبين جمهور الناس، هو فارق خلقي طبيعي غير معلل وغير قابل للتعليل.. ولذلك لا نجد الموهبة حاضرة فيمن يدعيها أو ممن يدعيها لمدعيها، وإنما تثبت فقط بوجودها واقعاً حاضراً بغير ادعاء ولا استعراض، تدوم ويدوم أثرها حتى بعد وفاة صاحبها الموهوب الذي يظل الجمهور عارفاً به وبموهبته ذاكراً لهما بعد موته وانقطاع السبل بين الراحل وبين ادعاء ما اعتاد بعض الناس أن يلحقوه بأنفسهم من مواهب أو مزايا أو صفات !

بل نرى أن موهبة مثل عبقرية فان جوخ أو كوبرنيك ـ ظلت مجهولة في حياتهما، لم تعرف ولم يدركها الجمهور إلاّ بعد موتهما وانقطاع أي سبيل لأي منهما للحديث عن موهبته أو الترويج لها !!

ووجود الموهبة في الذرية مطمع من قديم الزمان يرجوه ويتمناه الآباء والأمهات.. رأينا ونرى حرصهم ـ حسب اقتدارهم ـ على إلحاق أولادهم بذوي المواهب.. ليتعلموا منهم ويتأثروا بهم وتنضح عليهم مواهبهم لكن بما قد يكتسبونه منهم من معلومات وأساليب ومهارات.. أما «الموهبة» ذاتها فلا سبيل لتعليمها أو تعلمها أو توارثها !

في زماننا نرى الآلاف في المدارس والمعاهد يطلبون العلم والعلوم والآداب والفنون، ومنهم من ينال الشهادات الرفيعة والألقاب العلمية والدينية والفنية، ولكنهم لا ينالون «الموهبة» لأنها سجية مطبوعة قد تنمى بالدربة والممارسة، ولكنها لا تخلق ولا تكتسب مهما أنفق الدارس في قاعات العلم والفن والدراسة.

ومع شيوع الاستغراق في الظاهر والمظاهر، جعل الأوساط من أرباب الشهادات ودواليبها يحتلون محاور الحياة العامة التي خلت أو تكاد من أصحاب المواهب، وفارقها الجد والإنتاج بقدر ما فارقت الواقع وابتعدت عن الصدق والمعقولية !

ليس هذا تقليلاً من شأن الشهادات وما تعبر عنه من تحصيل لمعارف وإمكانيات، وإنما يأتي الخطر حين تزيح الشهادات أو تزيف المواهب وتواريها وتحول بينها وبين التعبير عن امتيازها وتفردها وفائض ما لديها من إحساس غير عادى بالصدق والاستقامة والجمال..

إذا توارت المواهب أو أزيحت، جفت حياة الناس وتزايدت مشاقهم في مجتمع يستغرقهم بعاديات الأمور ويشغلهم بطعامهم وسكنهم وصحتهم وعملهم وأمنهم.. مهددين في ذلك بمغامرات ومجازفات المستغلين حملة المراتب أو «المواهب الرسمية» الزائفة !.. الذين بيدهم مرافق الدولة يديرونها بما شاءوا بلا فائض إحساس بل بلا إحسـاس وبلا شعور بالمسئولية وبلا محاسبة.. لا يردهم عما اعتادوا إلاّ الخوف إن كان له سبيل !!

زر الذهاب إلى الأعلى