أطوار الإنسان محاولة للفهم (3)
من تراب الطريق (1014)
أطوار الإنسان محاولة للفهم (3)
نشر بجريدة المال الأربعاء 6/1/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
قيمنا التي نتداولها أحيانًا ـ ألسنتنا مصدرها.. وصايا ونبوءات قديمة جدًّا بالغة القدم.. مصدرها أفذاذ رددوها ونفذوها في حدود إمكانياتهم ـ هم وقليلون معهم.. عنهم تلقفها الخلق وأحبوها أو أحبوا معظمها، ومنهم من حفظها ارتفاعًا وإجلالاً بمعرفتهم لها، وادخارهم إياها كآمال حلوة يتمنى كل من حفظها ورددها أن ينفذها يومًا ما.. يقدر فيه على مقاومة نزواته ورغباته وغرائزه هو ومحيطه .
ولا شك أننا باستثناء الجماعات المتخلفة جدًّا ـ لا نحمل ما حمله الأقدمون من جفوة الغرائز والشهوات والرغبات.. لكننا أكثر منهم بكثير ـ مكرًا وأعمق خبثًا وأوسع طمعًا وأفظع إيذاء وإهلاكًا.. ربما لأننا عموما قد بتنا الآن ـ أقدر وأمهر في التخطيط والتنفيذ.. فقد زوِّدنا منذ القرن الماضي بالذات ـ بسيل منهمر من نواتج عقول المتخصصين من أهل العلوم والمعامل والمراصد والأبحاث والتجارب والمراقبات الطويلة والإتقان في معرفة الظواهر الطبيعية في الأرض وما حولها.. وهذا الكم الهائل من الزاد والزواد لا شأن له على الإطلاق بالقيم ولا يقاوم الغرائز والشهوات والرغبات، ولا يتحكم في الإرادات والمقاصد.. نقول ربما نكون بهذا التداخل المكتسح الجارف ـ قد فقدنا الشعور بالقيم والآمال في تنفيذها يومًا ما.. إذ حَجَب هذا التداخل عن البشرية الحالية مستقبلا أكثر إشراقًا ونضجًا وإنسانية !!.. فهل يمكن أن يفطن أغلبنا قبل فوات الأوان لهذا البلاء ويبادر بالانتباه إلى أضراره، وبالاتجاه إلى علاجها بإذكاء الشعور العام بالقيم بين الآدميين ؟؟!
من طريق التقليد الإرادي وغير الإرادي يتشابه الانتباه في الآدميين.. وإن كان لا يتطابق قط ـ لاختلاف الذات التي تدخل في الغالب وتجعله وقتيًا غير عميق الفهم إلاّ في الأسر المتماسكة والجيرات الطويلة.. ومن الملحوظ أن ذلك التشابه يخف عادة مع التقدم في السن حين تظهر المصالح الشخصية وتتباين الأغراض والأذواق وتتحرك المنافسـات والأنانيات في نفس الجيل والمحيط.. وربما تتطابق في كسلنا بمدى الانتباه إن كان موضوعه لا يهمنا بالذات.. ويختلف اهتمام كل منا بحسب صلته بالموضوع قربًا وبعدًا وتفاوتًا في الإدراك والشعور بالأهمية.. ذلك لأن اهتمام الآدمي يتيقظ للمصالح والأغراض أكثر من تيقظه للاحتمالات غير العادية التي تسترعى التفات حواسه فتحفظها ذاكرته التي تختار ما تحفظه، أما ما لا تحفظه فإنه يفلت من الوعى إلى الأبد، ولا يصبح موضوعًا للالتفات والانتباه عن طريق الحواس، وإن جاز أن يعرف أو تتأكد شواهده عن طريق الغير أو من الآثار !
أما الأفكار والمعاني والضوابط والروابط والعلاقات وصيغها، وتندرج فيها الأصول والقواعد والمبادئ والقيم والآراء، فليست من الثمرات المباشرة للحواس، ولا تحملها الذاكرة إلاّ متأخرة حفظًا للنتيجة التي يقف عندها التفكير في وقته.. مسلمـًا بها أو معترضًا أو رافضًا.. وقد تتحول إلى إيمان واعتقاد، أو إلى شك واستخفاف ينتهيان بالإهمال والنسيان !
والنسيان غياب للانتباه.. وقتيًا كان أو دائمًا.. والآدمي لا يمكنه أن يحصى ما ينساه دون أن يشعر.. لأنه ينسى لحظات عمره بمجرد مرورها الذي لا يلتفت إليه . ويبدو أن الاعتياد يتحكم في الذاكرة كما يتحكم في التفكير وفي النوم واليقظة وفي مواعيد العمل والفراغ، فتنقاد الذاكرة بالنمط المألوف في التذكر، وبترتيبه المعتاد في حياة كل منا في المعيشة والمشاغل والعمل والراحة ومواعيد ذلك وأسبقيته . فنحن لا ننتبه تمامًا لأداء هذه الأغراض لأنها باتت معتادة شبه آلية . فالاعتياد يختلس انتباهنا إليها ويحيله إلى عادة فقط قد تحل محلها عادة جديدة قد تسقط هي الأخرى كليةً من ذاكرتنا !