في دوحة الإسلام (47)
في دوحة الإسلام (47)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 16/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يتنسم المال مكانة متقدمة في جدول القيم، وهو قوة لا حدود لها، يختلف دوره طبقًا لاستعماله.. فقد يكون وفاءً وإثراءً للمجتمع، واعتناءً بالناس، ودفعًا للحركة الاقتصادية والتطوير والارتقاء، وفي ذلك يتمشى مع وظيفته الاجتماعية المستخلصة من أن الله تعالى قد استخلفنا فيه، وقد ينحرف استعماله ليكون أداة للاحتكار والتجبر والطغيان !
لذلك نهانا الإسلام عن عشق المال، عشقًا يلهينا عن ذكر الله تعالى، وعن التزام القيم والمبادئ وكريم السجايا الخصال والأخلاق .
محاذير عشق المال !
عشق المال والانغماس فيه، يلهي عاشقه عن ذكر الله، ويمثل فتنة قد تودى به إلى التهلكة، وقد يؤدى استغناؤه به إلى الطغيان، وإلى الانغماس في رِباه وزيادته، فيورث قلبه النفاق، ويصرفه عن أطايب الأعمال .
ما أجملته إنما هو حديث القرآن الحكيم .
قال تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ » ( المنافقون 9 )
وقال سبحانه : « إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ » ( التغابن 15 )
فمن اختار المال، وعشقه وانغمس فيه، يفتنه ويلهيه ـ كما قد يفتنه ويلهيه أولاده ـ عن ذكر الله واتباع صراطه والاستمساك بحبله .
قال تعالى : « كَلاَّ إِنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى » ( العلق 6، 7 )
عشق المال، والاعتزاز به، والاستغراق في جمعه، والاستغناء به عن قيم الحق والجمال والكمال، وعن البِر والخير والمعروف، إنما يسلس حتمًا إلى الطغيان به والتجبر !
وفي حديث الهادى البشير عليه الصلاة والسلام أن حب المال والعظمة، ينبتان النفاق في القلب.. وأنه قد هلك المكثرون إلاَّ من راعوا الله وعباد َالله .
عن الهادي البشير عليه الصلاة والسلام أنه قال : « سيأتي بعدكم قومٌ يأكلون أطايب الدنيا وألوانها، ويلبسون أجمل الثياب وألوانها، لهم بطونٌ من القليل لا تشبع، وأنفسٌ بالكثير لا تقنع، عاكفين على الدنيا، يغدون ويروحون إليها، اتَّخذوها آلهةً من دون إلههم، وربًّا دون ربهم، إلى أمرها ينتهون، ولهواهم يتَّبعون » .
كتب سلمان الفارسي إلى أبى الدرداء رضى الله عنهما : يا أخي إيَّاك أن تجمع من الدنيا ما لا يؤدى شكره، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول : « يُجاء بصاحب الدنيا الذي أطاع الله فيها، وماله بين يديه، كلَّما تكفّأ به الصراط قال له : امض، فقد أديّت حـق الله في : ثم يُجاء بصاحب الدنيا الذي لم يُطع الله فيها، وماله بين كتفيه، كلَّما تكفّأ به الصراط قال له ماله : ويلك ألاَ أدَّيت حق الله في ! فما يزال كذلك حتى يدعو بالويل والثبور » .
ورُوى أن عمر رضى الله عنه أرسل إلى زينب بنت جحش بعطائها فقالت : ما هذا ؟ قالوا : أرسله إليك عمر بن الخطاب . قالت : غفر الله له، ثم حلّت سترًا كان لها، فقطعته وجعلته صررًا، وقسمته في أهل بيتها ورحمها وأيتامها، ثم رفعت يديهـا وقالـت : اللهـم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا . فكانت أوّل نساء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لُحوقًا به .
رُوى عن مَسلمة بن عبد الملك أنه دخل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند موته، فقال : يا أمير المؤمنين، صنعت صنيعًا لم يصنعه أحدٌ قبلك . تركتَ ولدك ليس لهم درهم ولا دينار، وكان له ثلاثة عشر من الولد، فقال عمر : أقعدوني فأقعدوه فقال : أمّا قولك : لم أدع لهم دينارًا ولا درهمًا . فإني لم أمنعهم حقًا لهم، ولم أعطهم حقًا لغيرهم، وإنما ولدى أحد رجلين .
إمّا مطيع الله، فالله كافيه، والله يتولى الصالحين . وإما عاصٍ لله، فلا أبالى على ما وقع .
الوظيفة الاجتماعية للمال
تحمل الآية السابعة من سورة الحديد، وهي سورة مدنية نزلت بعد سورة الزلزلة ـ تحمل أمرًا ربانيًّا إلى كل المؤمنين بالله ورسوله ؛ أن ينفقوا مما جعلهم مستخلفين فيه، فما تحت أيدينا من أموال، كثر أم صغر، إنما نحن مستخلفين فيه، لقيام كل منا بدوره وواجبه في الحياة . فلم يستخلفنا الله عز وجل فيما يرزقه لنا، لنستعلى به في الأرض، أو لنتجبر أو ننحصر في ذواتنا.. فما في يدنا محض استخلاف من الله تعالى لنا، للنهوض بواجباتنا في البِر وصناعة الحياة .
بعد أن ختمت الآية السابعة ببيان ثواب وأجر المنفقين مما استخلفهم الله فيه، تورد الآية العاشرة على سبيل التساؤل الذي يقرع الحواس والعقول، فتقول لنا : « وَمَا لَكُمْ ألاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ » ( الحديد 10 )، ثم يتواصل الأدب الربانى الرفيع ببيانه الرائع الذي يقفي بقول الله عز وجل : « مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ » ( الحديد 11 ) .
كيف نقرضه عز وجل مما استخلفنا فيه ؟ فضلاً عن أن يكون قرضًا حسنًا . إن الله سبحانه وتعالى هو مالك السموات والأرض، الغنى الحميد، وإنما يعلمنا بهذا البيان القرآني جلالَ إنفاقِ ما استخلفَنَا سبحانه فيه في سبيل البِر والخير والمعروف .
للمال في الإسلام وظيفة اجتماعية، يسخره المستخلف فيه فيما يعود بالخير عليه وعلى المجتمع .
كان عليه الصلاة والسلام كثيرًا ما يقول : « يقول ابنُ آدم مالي مالي؛ وهل لك من مالك إلاَّ ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت » ؟ .
إمساك المال واحتجازه وحجبه عن التداول، يضر بالمستخلف فيه وبالمجتمع، ويؤدى إلى ركود الحياة الاقتصادية، ويصادر الرواج الذي يأتي بالخير والازدهار والنماء .
عن قيس بن سلع الأنصاري رضى الله تعالى عنه، أن إخوته شكوه إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم ـ أنه يتبسط في ماله، فلما سأله عليـه الصـلاة والسـلام أجـابـه : « يا رسول الله ! آخذ نصيبي من التمر فأنفقه في سبيل الله وعلى من صحبني » . فضرب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على صدره وقال له : « أنفق ينفق الله عليك . قالها ثلاث مرات » .
في شرعة الإسلام، وسنة نبيه، أن خير الناس أنفعهم للناس، وأن لله تعالى عبادًا اختصهم بقضاء حوائج الناس، حبَّبَهم في الخير، وحبَّبَ الخير فيهم، أولئك الآمنون عذاب النار يوم القيامة .
قال تعالى : « مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ » ( البقرة 261 )
صدق الله العظيم
* * *
- قال بعض الصوفية : لا سبيل للوصول إلى الله إلاَّ بالله .
وقالوا : المؤمنون سبقت لهم من الله السعادة .
- قال بعض العارفين : « ما نظرت إلى شيء إلاَّ رأيت الله فيه »
- في دنيا الأحياء يرتبط السبب بالمسبب، هكذا شاءت حكمة الخالق جل شأنه ! الذي هو وحده إذا قضى أو أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون !
- من آمن بالله تعالى فقد آمن بغيبه، وآمن بشهادته ـــ سبحانه ــ لنفسه أنه واحد لا خالق ولا صانع غيره.. به يؤمن الملائكة وبغيبه يدعون إليه، وبه وبغيبه ــ سبحانه ــ يؤمن المؤمنون ويدعون إليه بكتبه ورسله . يقول الواحد الأحد عز وجل: « شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » ( آل عمران 18)
- قد يخذلك العالم، وتسندك آية من القرآن.. فلا تتركه .
- المؤمن حقًّا، من لم يسترقه عاجل الدنيا، ولا حاصل هوى، ولا سؤال ولا أرب من حظوظ الدنيا .
- قيل في مأثور الحكم : الناس نيامٌ، فإذا ماتوا انتبهوا !
- تعظيم الله، هو امتلاء القلب بجلال الرب .
- علامةُ الإخلاص أن يغيبَ عنك الخَلْق في مشاهدة الحق .
- الأنس بالله، هو استبشار القلوب بقرب الله تعالى، وسرورها به .
وهدوؤها : في سكونها إليه .
وأمنها : معه.. تجول في ملكوته عز وجل، وتنهل من رياض المعرفة به..