ملكة الوعي والالتفات وسط زخم الحياة (2)
من تراب الطريق (979)
ملكة الوعي والالتفات وسط زخم الحياة (2)
نشر بجريدة المال الأربعاء 18/11/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
هذا العالم الزاخر بالآمال والمخاوف ـ بشرى صرف ـ ورثناه ممن سبقونا، ونورثه لمن بعدنا.. عاشت به البشرية وتعيش إلى أمد لا نعرفه مع المتاعب والمصاعب والمجاعات والحروب والمخاطر والنكبات والنوازل، لكنها لا تعيش إلى الأبد، لأن الذي أطال عمر البشرية إلى اليوم والغد القريب وربما البعيد هو ـ فيما يبدو ـ نمو عقل الآدمي بعامة ـ وعلى درجات ـ وباطراد ضعيف أو قوى حتى اليوم.. ولكن هذا الاطراد بات غير مأمون العاقبة.. لأن هذا النمو المطرد يصحبه غرور وإسراف في الاعتزاز ( بالأنا ) اعتزازًا زاد عن حده وفي طريقه إلى النهاية إن لم يوفق لنوع من الاتزان!
فقد صار البشر الآن بالبلايين.. أغلبهم يعيش على الكفاف.. فقرًا وإملاقًا.. معظمهم يتهدده الجوع في الأعم الأغلب.. لأنهم إما بلا عمل نتيجة الكساد العام، أو لأنهم فقدوا بالمخدر المقدرة عليه، وإما لأن الخطف والسرقة باتت سبيل الحياة الممكنة لمن شردوا عن الأخلاق، ولم يعد في أصناف البشر الآن أوساط.. لأنهم فقدوا طبقتهم التي اختفت باتساع نطاق الثراء وتركيزه في المضاربين والمغامرين والنهازين والمتآمرين المشتركين في الجمع والقضم في حركات المال والأعمال المحلية والعالمية الهامة التي يتنافسون فيها على امتلاك البلايين ومعهم حاشيتهم التي تغنم من ورائهم الملايين!! لم يعد اليوم وجود للطبقة المتوسطة من الناس التي إما انحدرت إلى عامة الخلق أو ارتفعت أقليتها إلى طبقة الأثرياء جدًّا أهل المال والأعمال. انتهي في هذه الأيام ـ التوسط أو الاعتدال بين الغنى المستبد والفقير الساخط الحائر المتخبط في الاحتمالات والمشاكل والمآزق التي لا تنتهي!
* * *
والمجتمع الحالي في كل مكان على هذه الأرض ـ مع كثافته غير المسبوقة ومع شواغله الزائدة التي لا أول لها ولا آخر، ويقظته الظاهرة التي لم يعرفها السابقون.. هذا المجتمع الذي لم يعرفه البشر من قبل.. قد فقد تمامًا الثقة في الاعتزاز بوجوده واليقين في مستقبله القريب والأمان بالبقاء على ما جمعه.. إذ فقد الاعتماد على الأهل والعزوة والصحبة والوطن والمواطنين.. لأن المجتمع الحالي أينما يوجد ـ هش ووقتي وأناني وساخط.. فالآدمي اليوم يدور أهم دوراته حول ذاته.. لا يعرف ولا يصدق في الوجود وجودًا لشخصٍ أو شيء أهم من هذه الذات الخاصة!. ولذلك باتت البشرية كلها اليوم متعلمة أو جاهلة شابة أو مسنة ـ متطورة أو متأخرة ـ تبدأ حتمًا من الأنا وتنتهي إليها دائمًا بلا استثناء! في هذا الخضم البشرى الذي تسوقه الأنا من قمته إلى قاعه دون مقاومة تذكر، وإذا تمت سيادة ” الأنا ” الآن على البشر وتسلطها على العلوم والأخلاق والفنون والآداب والسياسات والاقتصادات والحكومات والمعارف والمعاهد والمدارس ـ زادت حيرة المتعمق المخلص في البحث عما يمكن من العلاج المجدي!!
والآدمي الفرد عاجز وحده كائنًا ما كان عقله وصبره وعمره وعلمه.. وهو لا ينسى أناه حتى في وحدته.. وقد يظن أنه أهملها في القرابات والصداقات والواجبات والشدائد والأزمات والنكبات، ويظن أنه سلم ذاته للتضحية في حماية الآخرين من الأحباب أو الأجلاء في نظره.. وهو خيال في الأعم الأغلب ـ لا يقوم عليه فعلا إلا أقل القليل.. وهو إن حدث ـ إقدام نادر جدًّا بتضحية الحياة من أجل بقاء السمعة إلى الأبد لدى الأحياء الموجودين بعد زوال مؤديها نهائيًّا.. ونحن العاديين لا ننكر إعجابنا بهذه القلة النادرة في مجازفتهم وفي ذلك الخيال البالغ أقصى التفاني!! ولكنه في ذاته إعجاب شكلي محض.. لا يرجو الآدمي في المعتاد تحقيقه لنفسه أو لمن يحب ـ لأنه لا يطيق الهلاك على أية صورة ويرجو النجاة من كل نائبة مهما اشتدت أو عمت إلى آخر لحظة من عمره.. اللهم إلا أن يملأه اليأس من الحياة فتضمحل الأنا عنده ـ ويرفع تسليمه هذا ـ في كل اتجاه بعقله اليائس راية الفناء الذي ليس منه بد.. إذ حياة كل آدمي في كل زمان ومكان تجمعها الأنا الملازمة ـ الجمع الخاص بها.. منذ ولد إلى أن يموت.. جمعًا مرنًا يتسع ويضيق، وقد يبلغ ضيقه تلك الحالة المستسلمة اليائسة المذكورة.. ولا عجب فالبشر منذ خلقوا دائمًا يتجمعون جماعات تتبادل كل جماعة حاجاتها وأمانيها ومشاكلها في ماضيها وحاضرها تبادل الآدمي العادي في زمنه الذي لا يتعمق.. إذ التعمق لا يزال حتى اليوم خاصية القلة القليلة جدًّا من الناس . وهذه السطحية مرغوبة لما فيها من البساطة والتيسير والسهولة ـ لتكوين الجماعات واتساعها وإطالة أعمارها بما أمكن، وربما لم يكن هذا التجمع ممكنًا لو شاع التعمق في الأفراد دون القدرة على الاعتياد على التعاون والعشرة والارتباط العائلي والاجتماعي!