الأضغاث والإساءات وردود الأفعال !
الأضغاث والإساءات وردود الأفعال !
نشر بمجلة الدبلوماسي عدد أكتوبر / نوفمبر 2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
ظني أنه لا يليق بالحضارة البريطانية العظمى ، أو التي كانت عظمى ، أن تخرج لسانها لأحد من سنوات ، ناهيك عن أن تخرجه للمسلمين ! في تنطع غريب ، وخيبة قوية ، أعطى قصر باكينجهام بالتناغم مع الحكومة البريطانية التي لا تترك للقصر التصرف وحده ـ أعطى وسام « فارس » للمدعو سلمان رشدي ، في الوقت الذي جرّد فيه « موجابى » من ذات الوسام ـــ وسام فارس ـــ السابق لذات الملكة إليزابيث الثانية منحه إياه عام 1994 !
التجريد الملازم هنا للمنح ، دال بذاته على خيبة اختيارات المنح ، وإن أصابت هنا في التجريد . لست أعرف ما هي حيثيات منح الوسام الهلامي للكاتب الهندي الأصل سلمان رشدي ، فلا هو فارس ، ولا صدر عنه ما ينتمى إلى شجرة الفروسية ، ولا المانحة احتفظت بتقاليد الفروسية التي كانت للمملكة في الزمن الغابر !
حملت إلينا الأنباء من سنوات أنه في احتفال بقصر باكينجهام ، تلقى سلمان رشدي تكريم ملكة بريطانيا مـن أجـل « خدماته في مجـال الأدب » . ولم تحفل الملكة والحكومة البريطانية المتناغمة معها ، بمشاعر المسلمين الذين أساء إليهم الممنوح « وسـام الديكـور» في روايته « آيات شيطانية » ( 1988 ) ، ولا بما فيها من غثاء وتهجم جهول على الإسلام ولا ينتمى أو يحسب على الأعمـال الأدبية بمقاييسها التي يعرفها الأدباء والنقاد ، ولا حفلتا ــ الملكة وحكومتها ـ بما أنذر به الإعلان عن نيّة منح هذا الوسام من احتقان شديد ، ومظاهرات عمت الدول الإسلامية والعربية ، احتجاجاً على هذا التصرف الضرير الذي لا معنى ولا سبب له اللهم إلاّ أن يكون مقصوداً به إغاظة المسلمين واستفزازهم وتكريس التوتر بينهم وبين العالم الغربي !
لم تمنح ملكة الإنجليز هذا الوسام ( الديكور ) لكثيرين من كتاب وأدباء الغرب والإنجليز الحقيقيين ، ولم تمنحه كتاباً كباراً من أصول هندية أو عربية ، ولم تنعم به على كثيرين من أدباء نوبل الذين شهد لهم العالم بأنهم أدباء حقيقيون قدموا للإنسانية والأدب والفكر أعمالاً عظمى !
فلماذا سلمان رشدي ؟!
هل صحيح أنه قدم ـ غير التهجم الغشوم على الإسلام ! ـ « خدمات في مجال الآداب » ؟! جواب هذا السؤال يكشف « تحرش » قرار المنح بالإسلام والمسلمين ، ويعريه من أي غاية يفهمها العقلاء إلاّ هذا المأرب الضرير بإخراج اللسان وإغاظة المسلمين ! ولكن هل في هذه الإغاظة الضريرة أي مسحة من عقل ؟! ما العقل في افتعال منح وسام ديكور لشخص خالٍ من المواهب استعدى بتهجمه الغشوم بليون ونصف البليـون من المسلمين ؟! وما العقل في إلهاب المشاعر والاحتقانات وإثارة الحروب الضارية العمياء بين أبناء الأديان ؟! ماذا لو تمنطق المسلمون كما تمنطقت ملكة الإنجليز ، ومنحوا وسام أو لقب فارس لمن يشن حملة ــ مثلاً ! ــ على العهد القديم يكشف ما به من عنصرية وتعديات صريحة على الإنسانية ومخالفات جسيمة في الخطاب والتعاليم لا تتفق بأي حال من الأحوال مع الرسالات
السماوية ؟! ماذا لو تخير المسلمون إرهابيا فأسبغوا عليه فروسية متنطعة لا تنتمى إلى عالم الواقع أو دنيا العقل التي يلتزم بها العقلاء ؟!
ربما كان من الممكن فهم ـ ولا أقول قبول ــ هذا الجنوح البريطاني ، لو كان هذا السلمان رشدي عبقرية فذّة سبقت زمانها وفاقت السابقين والمعاصرين بنبوغ لافت أدهش القصر الملكي وأذهب لبه ولب الحكومة ودفعهما دفعًا لا حيلة لهما فيه سوى إشهار الإقرار بهذه العبقرية الفذّة والعطاء المجيد ، بيد أن الواقع صافع يقول إن الرجل من مغموري العطاء محدودي الفكر عديمي الموهبة ، وأن كل بضاعته التي جرى بها ذكره ، هي التطاول الجهول الغشوم على الإسلام ، ومعاداة أمته ، بحيث بدا أن المقصد الوحيد للإنعام البريطاني هو إغاظة المسلمين والتحرش بهم واستفزازهم .. فهل هذا « الاستفزاز » مرام مقصود لدفع المسلمين إلى ردود أفعالٍ غاضبة لاستغلالها في الترويج ضدهم بأن العنف طبيعتهم ! حتى هذه الحيلة ، إن كانت هي الدافع ، حيلة خائبة ، لأن الغضب للدين قاسم مشترك بين جميع أبناء الأديان بلا استثناء ، وليس من ثم حجة على المسلمين أن يغضبوا للغو في دينهم والإساءة إليه والتطاول عليه ! فإذا كانت وراء الإنعام اعتبارات سياسية ، فإنها صدرت
ولا شك عن رؤية قاصرة لم تحسن فهم التداعيات السلبية المؤكدة لهذا التصرف الذي بدا شذوذًا عن كل مألوف واصطناعًا لأسباب الاحتفان وتعكير العلاقة بين المسلمين وبين الغرب بعامة والإنجليز بخاصة !
ما هي مصالح بريطانيا العظمى ، التي يجب أن تحكم التصرفات الملكية والقـرارات الحكومية ، من وراء منح هذا الوسام الديكور ؟! .. هل صار سلمان رشدي فارسًا في الحق والحقيقة بمنحه هذا الوسام .. الفروسية التي ينتمى إليها الفارس مجموعة قيم وخصـال وقدرات ومعطيات ، لا مجرد إسباغ نعم أو أوصاف بلا مضمون .. قد يمكن أن يوجد فارس
بلا جواد ، لأن الفروسية منظومة رفيعة يستطيع أن يدركها الفارس حتى لو كان مترجلاً على قدمين ، ولكن لم يوجد فارس قط ، حتى ولو اعتلى صهوة حصان أو حمار، لا يملك نخوة الفارس ومقومات وخصال وصفات وعطاء الفروسية !
ما العائد على بريطانيا من هذا التحرش الذي لا يستند إلى أي معنى تقره الأفهام ، وهل جعلت الانعامات الملكية لافتعال أسباب للعداء والتخاصم والتعارك بين الشعوب ، ناهيك عن أبناء الأديان ؟! إن ما لازم قرار المنح الضرير ـ من تجريد مبصر للرئيس الزيمبابوي «موجابى » من لقب فارس السابق إسباغه عليه عام 1994 ، دليل قائم أمام الملكة وحكومتها على أخطاء وعمى أمثال هذه القرارات بما يوجب التأني والتمعن فيها وفي مقوماتها ، ناهيك عما يمكن ــ كالحادث ! ــ أن تثيره من ردود أفعال ظني أن الإنسانية في غنى عنها !
يخطئ المسلمون خطأ كبيراً لو أعطوا أي اهتمام لهذا الوسام الديكور أو التفتوا إليـه .. فلا المانحـة فارسة تقبل شهادتهـا على الفروسية ، ولا المسبغ عليه فارس أو يمكن أن يكون فارساً لمجرد أن ملكة الإنجليز منحته وسام فارس .. الوسام ديكور لا قيمة ولا معنى ولا أثر له ما دام يخالف الواقع ولا يستند إلى حيثيات .. وسلمان رشدي لم يكن فارساً حين تهجم في « آياته الشيطانية » على الإسلام ، ولن يكون فارسًا بالديكور الذي لا يجاوزه الوسام .. ومآل ما كتبه إلى مزبلة التاريخ ، فلا هو قدم عملاً فكريًا موضوعيًا قيّمًا ، ولا هو صنع عملاً أدبيا رفيعاً يحسب له . ما فعله هذا الرجل محض تهاويم ضريرة وتهجم أعمى أرضى وأعجب فقط من يكرهون الإسلام والمسلمين !
المستفيد الوحيد من أي احتقانات أو ردود أفعال غاضبة ، سوف يكـون ذات سلمان رشدي الذي لم تكـن له أي قيمة ، ولا كان له ذكر ، إلاّ بالفتوى الخومينية الإيرانية وردود الفعل الإسلامية على « آياتـه الشيطانية » .. فهي عمل غث ، لا أدب فيه ولا فكر به ، ولم يلفت الأنظار إليه وإلى كاتبه ، إلاّ ردود أفعالنا .. لا زلت آمل أن نتعلم من دروس الماضي ، أن نهمل الوسام ومانحته والممنوح له ، وألاّ نعيرهم أدنى اهتمام ، ففي هذا الإهمال مقتل الحدوتة كلها !!
الوسـام الممنوح بلا حيثيات ، لغو في لغو .. واللغو لا معنى له ولا قيمة ، وكم من تفاهات وأضغاث مرت مر السحاب ، فلا أمطرت ، ولا أظلت ، ولا التفت إليها أحد .. ليس التجاهل موقفا أو تصرفاً سلبيا ، فمردوداته كلها إيجابية ، تعلم أطراف اللعبة ، وتعلم العالـم ، أنه لا قيمة لما لا قيمة فيه ، وأن المسلمين لديهم من إيمانهم وثقتهم في دينهم وعقيدتهم ما يحدوهم لتجاهل الصغار والصغائر .. التجاهل مقبرة حقيقية في مثل هذه الأحوال !
على أن ما ينبغي الالتفات إليه ، أن ردود الأفعال الغاضبة المتطرفة على مثل هذه الإساءات ، لا يستفيد منه سوى المسيئين ومن يجرى مجراهم ، وربما تذكرنا أن « الفتوى الخومينية » الإيرانية بإهدار دم سلمان رشدي ، هي التي روجت له وأذاعت صيته ، وصيرته عَلَمًا ، وهي فتوى لم تنفذ قط ، ولم يكن لها من جدوى إلاَّ الإساءة للمسلمين أنفسهم ، مثلما جرى في وقائع أخرى ، وكثيرًا ما تؤدى ردود الأفعال الجامحة غير المحسوبة ، إلى عكس المراد !
كانت سياسة الفعل أجدى دائمًا من سياسة رد الفعل ــ لم تكن سياسة العصيان المدني التي أقضت مضاجع بريطانيا العظمى محض رد فعل ، وإنما فعل اختطه غاندي وقاد به أمته إلى الاستقلال . كذلك كانت سنن الأنبياء والمصلحين ، وهم الذين أناروا السبيل للإنسانية !