زحف الدنيا وصفاء الإيمان ! (4)

من تراب الطريق (966)

زحف الدنيا وصفاء الإيمان ! (4)

نشر بجريدة المال الأحد 1/11/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

وجـود الأسر قديم وسائد في جميع الجماعات البشرية كلها .. تتكون بداياتها غالبًا تبعا لمشيئة الكبار من الذكور .. وأحيانا الإناث .. فهي ليست اختيار ولا مشيئة القرناء .. فهؤلاء يستسلمون للعشرة المألوفة فى الجماعة التي يتولاها الكبار .. لا بعناية وتدقيق ، وإنما وفقًا للعادات المألوفة .. وهذا دام ويدوم وسيدوم بين غالبية المشاركين في العشرة أو الاقتران أو الزواج أكثر من دوام الخلاف الذى قد يشتد أو يقل تبعًا للأوقات والظروف والأعمار .. يضمن بقاءه رغم ذلك ، الحرص المألوف على بقاء الأسرة التي تكونت واهتمت في حدود وسعها بالأولاد أو بطول العهد أو بالإحساس باليأس من العثور على موافقة دائمة .. فالبشر نادرًا جدًّا ما يستخدمون عزائمهم أو يتمسكون بصلابة إراداتهم.. سواء في حياة كل منهم أو في حياة الجماعة التي ينتمون إليها.. وأشد من ذلك ندرة النظرة الجادة العميقة إلى مستقبل الإنسانية !

وهذه إلى اليوم لا يكاد يلتفت إليها أحد .. لا الخاصة ولا العامة .. سواء في الجماعات المتقدمة المتطورة ، أو في الجماعات التي في طريقها إلى التطور .. ناهيك بالجماعات المتأخرة !

ذلك لأن البشرية كلها إلى يومنا هذا .. خاصتها وعامتها،  علماءها وجهالها ، أغنياءها وفقراءها ، متحضريها ومتخلفيها ــ تستجيب أولاً وأخيرًا وبلا استثناء إلى العواطف النشطة فى كـل آدمـي حىِّ .. ولا تتصور قط الاحتكام إلى العقل البشرى الذى يُطاع ويُتبع ولا يَخضع ويُستخدم ويُؤمر ويُقاد .. لأن البشرية لا تستجيب حتى الآن إلاّ للعقل الذى يخدمها ويخدم أغراض آمالها وأمانيها ورغابها وأحقادها وخصوماتها وعداواتها خدمة المستعد لأداء ما يطلب منه من هذه أو تلك من الأغراض البشرية !

والآدمى ذكرًا أو أنثى ــ حريص أشد الحرص على لذة الجنس حتى الشيخوخة ، وعلى لذة التنعم والاستمتاع إلى أقصى ما يستطاع فى شراء واغتنام وحيازة واستيفاء أطيب ما فى وسعه من المأكل والمشرب والملبس والمسكن والزينة والأثاث والرياش والاقتناء والتملك والتزين والتظاهر والتفاخر وحيازة النفائس أو ما يظن أنها كذلك، ويحاول إن أمكنه أن يمتلك أو يحوز الدور الواسعة والقصور الفخمة ، وأن يكون لديه منها ما يكفل تنعمه فى المصايف والمشاتى .. ويصر أو يرجو رجاءً موصولاً أن يقتنى ويغتنى وأن يزداد غنًى ما عاش .. يزهو بثرائه وغناه وتزهو به عائلته معه ومن بعده .. وهو يحب المال حبًا جمًا لا يدانيه شىء إلا الزيادة فيه والتسلط على إنفاقه والتيه باستخدامه والتقوّى بقوته الفعلية أو المدعاة التى يطمع أن تنقلب إلى واقع يطمئن سره عليه .. وهو ينتظر الثراء فى شبابه وقبل شيخوخته .. وقد ينافس الأثرياء ولا يبخل على نفسه بالرياضة والسياحة والصداقات لمن هم أثرى منه أو من يعتقد إمكان الانتفاع بنفوذهم أو نفوذ أقاربهم .. مشغول بالتطلع إلى كل طبقة تعلو طبقته ، فإن أعياه الوصول إليها تظاهر بأنه منها  وسعى سعيه الجهيد الحثيث لينضم لها ذات يوم .. لا يدع فرصة إلاّ اغتنمها فى اصطناع الأناقة والتطيب والتجمل .. لا يعنيه أن يكون الجمال والحسن حقيقيًا أو غير حقيقى .. ما دام على الحال الظاهرى الذى يحب أن يبدو به وعليه  فى عيون الناس !

*          *         *

ما أسلفناه هو معظم معالم عواطف الآدمى فى مجملها فى كل أوان وفى كل عصر، تختلف طبقات هذه العواطف من شخص لآخر فى الأغراض والعادات ـ تبعًا لمستوى جماعته ومقدار ما بلغته من التقدم .

واتساع نطاق التعليم باطراد بداية من القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا ــ لم يغير اتجاهات هذه المعالم ، بل قواها وزاد اقتحام الطبقات الشعبية ودخولها فيما كان يسمى بالطبقات الخاصة .. فبات امتلاك المال أو ادعاء امتلاكه فى مقدمة عواطف أهل زماننا .. لأننا مع التقدم الذى قد يظهر فى مكان وينمو فى مكان آخر ولا ينقطع ـ كثيرًا جدًّا ما نستعمل ألفاظ اللغات وتراكيبها مع تغير معانيها وأهدافها بتغير الأزمنة والأمكنة والأوقات والأعمار والعصور . ولا ينقطع فينا قط حلول جديد يحل محل قديم فى مفهومه ونفاذه .. لأننا جميعًا فى تغير دائم من الميلاد إلى الممات ، بل ومن الأمس حتى اليوم .. ولكننا نتجاهل ما أمكننا ذلك التغير الملازم لنا .. نفعل ذلك بالوعى أو باللا وعى حتى نستبقى قدراتنا على التقارب والتآخى والصداقة والاعتياد والجوار والمعاشرة والتعارف والاشتراك والتعاون والقيادة والزعامة والرياسة .. ولكن دون أن نتخلى عن الأنانية الناشبة فينا اتساعاً أو اقتصارًا وتضييقًا .. تعمل السطحية والعاطفة والاندفاعات والمخاوف عملها فى مواقفنا وتصرفاتنا .. أفرادًا وزمرًا وجماعات .. ولا نبالى بأوهامها أو أحلامها التى تداعب كلا منا . هكذا وجدنا ونوجد .. لا على أنماط واحدة كما نظن ونعتقد ويقتنع كل منا باعتقاده وظنه ، لكن تعترينا أحوال خلال ذلك الأمد الطويل .. يزداد دون أن نشعر فى حينه ـ نمو العقل الذى يصطدم بغيرة الذات وأنانية كل منا الحاضرة على الدوام فى حياته !

زر الذهاب إلى الأعلى