التركية العثمانية وأنهار الدماء (7)

التركية العثمانية

وأنهار الدماء (7)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 12/10/2020

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

بين الدماء المراقة ، والأرواح المزهقة ، وقتل الإخوة  أو حبسهم على الأقل ـ اتقاءً للمنافسة المفترضة ، دارت دائمًا أخبار الدولة التركية العثمانية العلية ، فتـروى الأخبـار أن السلطـان الغـازى « مصطفـى خان الثالث » ، بادر فور توليه الحكم إلى حبس أخيه « عبد الحميد » فى القصر ، ليبقى سجينًا طوال مدة حكمه التى امتدت نيفًا وستة عشر عامًا ، اتقاءً ـ كالعادة ـ لأى منافسة محتملة أو متوهمة ، ولا شك أن الأخ السجين حَمَد السجن ، فقد أعفاه من الذبح ، حتى إذا مات السلطان « مصطفـى خان الثالـث » فـى 21 يناير 1774 م ، خرج الأخ الحبيس من سجنه ليتولى الحكم تحت اسم السلطان الغازى ( كلهم غزاه ) « عبد الحميد خان الأول » . ولنا أن نتصور سجينًا استمر سجنه ستة عشر عامًا وثمانية أشهر ، ما عليه حاله من جهالة وانغلاق وأمراض نفسية ، لا يصلح إزاءها لحكم حارة . ولكنها أحوال دولة الخلافة العلية ، أن يخرج الحبيس من سجنه الطويل ليتولى الحكم فى موكب حافل إلى جامع « أبى أيوب الأنصارى » الذى يتبارك به الخلفاء الأتراك العثمانيون ، حيث تقلد سيف السلطان « عثمان » مؤسس الدولة العثمانية العلية !!!

هذا وقد بقى السلطان عبد الحميد الأول على دست الحكم نيفًا وخمسة عشر عامًا ، إلى أن توفى فى 7 أبريل 1789م ، وتلاه السلطان « سليم خان الثالث » وهو ابن السلطان مصطفى الثالث ، وبدأت ولايته سنة 1789م حتى عزله من السلطنة فى يونيه 1807م ، وباء حكمه ، بالموقف المخزى الذى التزمته الدولة العلية العثمانية إزاء الحملة الفرنسية الغاشمة على مصر بقيادة نابليون بونابرت ، والتى بدأت فى سنة 1798م ، دون أن تحرك دولة الخلافة التركية العثمانية ساكنًا للتصدى لهذه الحملة على مصر الداخلة ـ آنذاك ـ فى رعوية دولة الخلافة العلية العثمانية ، والتى أعلن بونابرت لدى دخوله القاهرة ، أنه قد أتى حليفًا للباب العالى لتوطيد سلطانه ومحاربة المماليك العصاة .

وقد فضح التاريخ خواء دولة الخلافة التركية العثمانية وتخاذلها عن القيام بواجبها فى حماية مصر التابعة لرعويتها ، ودل التاريخ على أن مقاومة الحملة الفرنسية انعقدت من بدايتها حتى الرحيل عن مصر سنة 1801م ، للأبطال المصريين الذين اضطلعوا بهذه المقاومة الباسلة ، وسطر الشعب المصرى وزعماؤه آنذاك صفحات من الشرف والفخار حتى اضطر الفرنسيون إلى الرحيل ـ منهزمين ـ عن مصر .

ولن تجد لدولة الخلافة العلية أى موقف مناهض للحملة الفرنسية على مصر ، بل ستجد العكس ، وسترى أن المقاومة المصرية النبيلة لهذا الغزو الذى اجتاحها ، إنما كانت مقاومة مصرية صرف  ، تجلى فيها من الأبطال الفارس الثائر محمد كريم .. البطل حتى الموت ، والفدائى المحب لمصر سليمان الحلبى .. شهيد الوطنية ، وعمر مكرم .. الزعيم المصرى النبيل ، ليستأنف جهاده فى مصر ضد مظالم أمراء المماليك ومظالم الباشا نائب السلطان العثمانى ، فلم تكن أحوال مصر بخير ، وكانت الأمور نهبًا لهذه الطغمة ، وقد كشفت الأحداث المتتالية لعمر مكرم ، والمعارك التى خاضها فى صف الشعب ، حقيقة ما يجرى من نائب السلطان التركى العثمانى وأمراء المماليك !

ومع ولاية الصدر الأعظم خسرو باشا أغا الانكشارية , منصب نائب السلطان العثمانى ، فى أعقاب جلاء الحملة الفرنسية 1801م , انتشرت الفوضى والاضطرابات فى مصر ، وتعددت سقطات هذا الباشا ، فثار عليه الجند ، فهرب خسرو باشا إلى المنصورة ، وتعقبه طاهر باشا ، ولم يكن هذا الأخير سوى رجل أمى لا وزن له ، فأزيح من الحكم وقتل بعد 26 يومًا ، وتصارع أمراء المماليك كالعادة ، وبدا أن الأمور قد استقرت بعد أحداث جسام لعلى باشا الطرابلسى ، ولكن سرعان ما تداعت دواهى قتل فيها الطرابلسى ، وعاد الألفى بك الكبير إلى رشيد بعد أكثر من سنة قضاها فى بلاد الإنجليز الذين كانوا على صلات به ، ورغم ما كان بين الألفى والبرديسى من حسدٍ وغِيرةٍ ، دخلا معًا فى ائتلاف ، ولكن سرعان ما وقع الخلف بينهما ، فهرب الألفى بك حينما شعر بالتآمر ، وأخفق أعوان البرديسى فى العثور على البك الكبير الهارب .

وفى تلك الظروف الملتبسة التى كانت تمر بمصر , تفطن محمد على إلى مغزى الحوادث , واستصفى خلاصتها , وطفق يتحرك بذكاء وخبث ودهاء , ساعده على التقدم , أن الشعب والزعماء اكتووا بنار المماليك , وعلموا أنه لا رجاء ولا أمل فيهم , وقدمت لمحمد على مواهبه وسداد خطته وسياسته , ومع مجريات الصراع بين المماليك وبعضهم البعض , وضد الباشا الوالى التركى من قبل السلطان العثمانى , طفق محمد على يتقدم مدعومًا بالشعب وزعمائه ,   بعد أن طفح الكيل من المماليك , على أن عمر مكرم كان أكثر زعماء الشعب شجاعة وإقدامًا , وأقواهم إخلاصًا وإيمانًا .. لم يتحرك لظلم لحق به أو ضرر أصابه , كما فعل غيره , وإنما التزمت كل تحركاته بنصرة الحق , وتفطن إلى أن كل هَمّ العثمانيين القضاء على الأمراء , لا لمصر ومصالحها ، ولكن ليخلو لهم الميدان , وأن خورشيد باشا الذى اختاروه بعد الأحداث الجسام نائبًا عن السلطان العثمانى , يسير على ذات الوتيرة ، ويلتزم التزامًا تامًّا بهذه الخطط , ويسعى بكل السبل لتنفيذها , وحصره عناده فيما يريده السلطان التركى العثمانى بعيدًا عما تفرضه مصالح العباد الذين لا ولاء له تجاههم , فاهتم خورشيد باشا بجباية الأموال بالضرائب والمكوس والافتداءات , فثارت النفوس , واضطربت القاهرة اضطرابًا شديدًا , هنالك تقدم الفارس عمر مكرم ليعبر عن ضمير الشعب المصرى الذى كان روح حركته , فكان أول من دعا إلى الاجتماع فى دار المحكمة الكبرى لإعلان خلع خورشيد باشا واختيار محمد على بدلاً منه , وكان أول من دعا إلى محاصرة القلعة بعد أن أبى خورشيد باشا النزول منها متمسكًا بأن يبقى على رقاب الناس رغم أنوفهم . ووقف عمر مكرم يقول فى نهاية حوار طويل مع أحد مستشارى خورشيد باشا : « إن أولى الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل , وهذا رجل ظالم , وقد جرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلد يعزلون الولاة إذا ساروا فى الناس بالجور , وقد أفتى العلماء والقاضى بجواز قتالهم ومحاربتهم لأنهم عصاة ! ».

زر الذهاب إلى الأعلى