الأديان السماوية والوضعية ومقدمات النبوة الإسلامية

 

الأديان السماوية والوضعية

ومقدمات النبوة الإسلامية

نشر بجريدة الشروق الخميس 8 / 10 / 2020

بقلم: الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين

يبدأ الأستاذ العقاد هذا الحديث بتناول الديانة « المجوسية » ، ولم يكن أتباع أي دين من الأديان الشائعة قديمًا على استقرار في عقيدتهم أو على ثقة بأحبارهم وأئمتهم , وكان أشدها اضطرابًا ديانة الفارسية أو دياناتها المتعددة التي تشملها « الثنوية » أي الإيمان برب للنور ورب للظلام وعالم للخير وعالم للشر في كون واحد .

وكانت هذه المجوسية تستعصى على الدعاة المصلحين من أيام الوثنية الآرية الأولى التي اشترك فيها الهنود والفرس ، وقد عمل « زرادشت » جهده لتطهيرها من الوثنية ، ومن شعائر الهياكل والمحاريب الخفية فلم يتيسر له ذلك إلاَّ قليلاً .

وجاء بعد « زرادشت » مصلحون من أتباعه ، مزجوا الفلك بالتنجيم بالخرافة والعبادة في نحلة واحدة , ولم يعرف عنهم الناس على البعد إلى عصر الميلاد ـ إلاَّ أنهم رصدة للكواكب والخفايا والغيوب من وراء حجاب الظلام .

وأراد « مانى » الذي تُنسب إليه « المانوية » ـ أراد في القرن الثالث للميلاد أن يغلق باب الوثنية في الشرق ويرجع إلى « ثنوية » قريبة من « ثنوية » زرادشت وتوحيد الفلسفة العقلية , فحول قومه من الكتابة البهلوية إلى الكتابة الآرامية أو السامية وكاد أن يفلح في إقناع ولاة الأمر بآرائه في الإصلاح والتنزيه ، لولا أن أفسدتهم عليه دسائس الكهان والوزراء ، فسجن ومات في السجن وقيل إنهم سلخوه وعلقوه مصلوبًا لسباع الطير .

ثم كانت الطامة الكبرى ـ فيما يقول العقاد ـ في عهد « قباذ »  أبى كسرى أنوشروان الذي حضر بعثة النبي محمد وتلقى رسالته إليه بالسخط والوعيد .

ففي عهد « قباذ » ظهر « مزدك » داعية الإباحة والفوضى في الأموال والأعراض ، ولم يتزحزح خطوة واحدة من الثنوية إلى التوحيد أو ما يشبه التوحيد .. وقال كما قال « مانى » إن العالم كله في قبضة إله النور وإله الظلام ، وزاد عليه أن النور يعمل بالقصد والاختيار ، وأن الظلمة تفعل بالخبط والعشواء  .. أي أن النور عالم حساس والظلمة جاهلة عمياء .

وزعم « مزدك » أنه جاء ليبطل الخلاف بين العقائد والأمم , وينهى عن المباغضة والقتال , ولأن أكثر ما يقع بسبب النساء والأموال , فإنه قد أحل النساء وأباح الأموال , وجعل الناس شركاء فيهما كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ .

ويقال عن « مزدك » هذا إنه كان عظيم الدهاء خبيرًا بفنون الإغراء والإقناع .. وإنه بلغ من سلطانه على « قباذ » ( أبى كسرى أنوشروان ) أن أقنعه ببذل زوجته لمن يشتهيها ليعلم الناس الصدق في إيمانه ويقتدوا به في ترك التباغض والملاحاة في الأعراض والعروض .. ويقال إنه كاد أن يستجيب ـ لولا أن تضرع إليه باكيًا ولى عهد كسرى ألا يذله هذا الإذلال ويبتذل أمه أمام الناس هذا الابتذال !

وعلى الرغم من تتابع المصلحين واجتهادهم في تطهير الديانة المجوسية من الوثنية والمراسم الهيكلية ، حالت ديانتهم الغارقة في الأرواح والشياطين بينهم وبين التوحيد ، بل بينهم وبين « الثنوية » على بساطتها الأولى .. ولا يزال المجوس إلى اليوم يبدأون صلاتهم بعد منتصف الليل ، ويقضون ساعات الصلاة الأولى في تلاوة الأناشيد التي يسترضون بها شياطين الظلام ، قبل انبثاق النور الأعظم عند الصباح !

اليهودية والمسيحية

أما اليهودية فقد كان قيام المسيحية في معقلها الأكبر إيذانًا حيًّا بنفادها وانتهائها إلى غاية الجمود والضيق . إذ كانت المسيحية في الواقع إصلاحًا واسعًا في جميع العقائد اليهودية التي جمدت على المراسم والنصوص وتحولت من الدين إلى نقيض الدين .

بل وكانت قد ظهرت في عصر الميلاد عقائد إصلاح بين اليهود أنفسهم ، منها ما تبناه « فيلون الحكيم » وغيره من أصحاب العقائد التي استقصاها الأستاذ العقاد واستقصى ما كانت تطرحه من أفكار بما في ذلك الثورة على تفسير وعد إبراهيم بأسلوب العصبية والأنانية.

فلما سرى الإصلاح المسيحي مسراه ، تجاوب معه الراغبون في الإصلاح أو المستعدون له ، بينما بقى الجامدون على جمودهم بل وعلى أشر مما كانوا عليه قبل الدعوة المسيحية . وقد جنى العناد والإصرار على الباطل ـ جنى جنايته المعهودة فذهبت ريح الكهانة والمراسم الهيكلية وتفرقت مراجع الديانة اليهودية مع كل مجمع وكل معبد وكل طائفة ذات مذهب في التوراة أو التلمود أو تقاليد الأحبار والربانيين . وكان من آثار هدم الهيكل سنة سبعين للميلاد أن أشياعه فقدوا وحدة العقيدة والروح .

وعلى هذه الحال كان يهود العالم في عصر البعثة المحمدية : بين أشتات يذهب كل منها مذهبه على حسب المجمع أو المعبد الذى ينتمى إليه ، وبين شراذم متعنتين في الجمود على الحروف والنصوص ، ويرجعون بهذه النكسة إلى الداء الذى قامت المسيحية لإصلاحه قبل بضعة قرون ، فتجددت الحاجة إلى الإصلاح .

محنة المسيحية

يقصد الأستاذ العقاد بهذا الفصل ، المحنة التي صادفت المسيحية والمسيحيين من الاضطهاد والتعذيب الذى باشره حكام البلاد الرومانية شرقًا وغربًا ، والذى لم ينته باعتناق من اعتنق منهم المسيحية ، فقد جعل يباشر نوعًا آخر ـ كحاكم ـ من الاضطهاد والظلم ، وجعل هؤلاء يدسون مطامعهم بين المختلفين على تفسير المسيحية الأولى ، وفرقوهم شيعًا متباغضة متنافرة ، ولم يكن خلاف المذاهب آنذاك كخلاف اليوم الذى يسمح بوجهات النظر ، بل كان يعمد إلى طرد المخالفين ويرميهم بالكفر والضلالة ، والمروق والهرطقة ، وتعددت النحل بين الأريوسية والنسطورية واليعقوبية والملكية تبعًا للأقوال في الطبيعة الإلهية ومنزلة الأقانيم الثلاثة منها . ثم يأتي النزاع بين الكنيستين الشرقية والغربية فيأتي على البقية الباقية من الثقة والطمأنينة ، ولم يدع ركنًا من العقيدة ببعيد عن الخوض فيه .

وتمت المحنة الكبرى بالقتال الدائم بين الدولتين ، فإذا بالبلد الواحد ينقلب في الحكم بين سيادة الفرس وسيادة الروم فلا تهدأ له حال في نظام ولا في سلام ولا في معاش يأمن فيه الناس ، لا في الدين ولا في السياسة .

وقد كانت هذه هي أحوال العالم ، أو هي مقدمات الدعوة الإسلامية من تلك الأحوال . ولكنها المقدمات التي تنتظر العناية الإلهية .

الجزيرة العربية

قبل البعثة المحمدية

كان في الجزيرة العربية مجوس ويهود نصارى ، وعرف أبناء الجزيرة هذه الأديان عن طريق القدوة الفردية في رحلاتهم ومبادلاتهم مع الأمم المحيطة بهم .

وكانت المجوسية معروفة في قبائل تميم ومنهم زرارة . والأغلب أنها شاعت فى هذه القبائل لأنها كانت سهلة هينة عليهم لا تكلفهم بناء الهياكل ولا نحت الأصنام .

ولعل أحدًا من هؤلاء لم يكن يلتفت إلى مجوسية المجوس إلاَّ حينما يحدث الزواج بين المحارم الذى لا يحله عامة العرب .

وكانت اليهودية أعم انتشارًا من المجوسية فى الجزيرة العربية ، لأن المجوسية ظلت محصورة فى عشائر من العرب من سكان بين البحرين .

ولكن اليهود كانوا يهاجرون بجملة قبائلهم من أرض كنعان كلما أصابهم القمع والتشريد . وقد هاجر بنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل جملة واحدة إلى يثرب .

وكان ممن يسكن المدينة ، حتى نزلها الأوس والخزرج ، قبائل من بنى إسرائيل ، منها هؤلاء وبنو قينقاع وغيرهم ، وجماعة من أبناء اليهود فيهم الشرف والثروة والعز على سائر اليهود ، وكان معهم من غير بنى إسرائيل بطون من العرب .

ولم ينزل اليهود بغير المدن والقرى التى تحميهم فيها الآطام والأبنية ، فنزلوا تيماء وفدك وخيبر واشتغلوا بالتجارة والصناعة فى المدن ، وزرعوا الأرض حولها للمرعى والاتجار فى محاصيلها .

ويقال الكثير عن دخول اليهودية إلى اليمن ، وقيام دولة يهودية فيها ، والاحتمال الأرجح أن اليهود وصلوا إلى اليمن مهاجرين متفرقين ، وربما بدأت هذه الهجرة أيام السبى البابلى .

على أنه أيًّا كان تاريخ اليهودية فى اليمن وفى بلاد العرب عامة ، فإنها لم تكن ذات رسالة دينية أو روحية للصلاح والإصلاح ، ولم تكن معترفًا بها بين بنى إسرائيل فى غير الجزيرة العربية .

ولم يكن اليهود قدوة حسنة فيمن حولهم ، بل كانوا نقيض ذلك في كل علاقة بينهم وبين العرب أو بينهم وبين أنفسهم .

ولما نشبت الحرب بين الأوس والخزرج تفرق اليهود بين الحزبين ، فكان بنو قينقاع مع الخزرج ، وكان بنو النضير وبنو قريظة مع الأوس .

ولم يتحرك النضيريون والقرظيون لنصرة بنى قينقاع في أزمتهم مع المسلمين حين صعد أحدهم على جدار يجلس النبي تحته ليلقى عليه صخرة من أعلاه ، ووصفتهم سورة الحشر بأنهم « لاَّ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ » ( الحشر 14 ) .

ولقد عاش اليهود ما عاشوا في جزيرة العرب ولم يؤثر عنهم قط أي سعي في سبيل مطلب من المطالب العامة والخاصة غير الاستكثار من الربح المشروع وغير المشروع .

زر الذهاب إلى الأعلى