الإسلام والطريق إلى المساواة
من تراب الطريق (913)
الإسلام والطريق إلى المساواة
نشر بجريدة المال الخميس 13/8/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
من الحقائق المسلّم بها في عالم النفس وعالم الاجتماع، أنه كلما زاد شعور الإنسان بحريته وبقيمتها، زاد شعوره بالارتباط بما اختاره، وشعوره أيضًا بالتبعية والمسئولية، والعكس صحيح فإذا خفت أو ضؤل أو انحط شعور الإنسان بقيمة حريته، تضاءل وتقلص شعوره بالتبعة والمسئولية.
والمسلم قد اختار الله ورسوله، وكلما زاد شعوره بهذا الاختيار -زاد بالله تعالى وبرسوله عليه السلام ارتباطًا- وكل حياة المسلم السوي تتساند وتتعاون بكل عناصرها وتفاصيلها على تقوية هذا الشعور بالارتباط ودعمه وتوكيده.. فلا يكف ذكر وتذكر المسلم لربه عز وجل.. ولا يكف عن تلبية أصداء هذا التذكر في عمله وسلوكه وتعاملاته.. وهذا التذكر الدائم لهذا الرباط ولقيمة حرية المسلم ومسئوليته وأهميته.. هو شيء أساسي لفهم وتطبيق فكرة المساواة كما هي موجودة في القرآن المجيد والسنة النبوية.
وهذا الشعور الصادق، هو الذي يبعد صاحبه عن التعلق والتهافت والتكالب على كل مظاهر وصور وأشكال الشهرة والصيت والإعجاب والمراتب والألقاب وما إلى ذلك من مظاهر التميز والاستعلاء.. وبالتالي يبعد روح المؤمن عن الآثار والنتائج المترتبة على هذه الفروق بين الآدميين، ويقي ضمير الإنسان وروحه وعقله من التهافت على مثل هذه الأشياء، ويحمى من ثم باطنه وسريرته من الفساد وتخريب روحه وحريته.
واختيارنا لله عز وجل، لا يبقى اختيارًا من طرف واحد، وإنما يلاقى ترحيبًا وتشجيعًا وتوفيقًا من الله جل شأنه.. وهذا الشعور هو الذى يسكن نفوسنا ويجنبنا القلق الذى يشوش على شعورنا بالحرية والوحدة، ويغرقنا في الصوارف وفى الغفلة والنسيان والهروب وعدم المبالاة !
إن المسلمين يتلقون ـ كل حسب حاله، مددًا خاصًّا من الله تبارك وتعالى، يحسّه المنعم عليه في نفسه فيضًا من النعمة أو الفضل أو البركة أو التوفيق أو اللطف أو الستر أو العناية.. وحين يختفي في فؤاد أحد منا شعوره بهذا الارتباط الشخصي بمولاه عز وجل، يكون قد غُلب على أمره وضل طريقه حين غلبـه هواه، ولا نجاة له إلاَّ بالتوبة وتجديد بيعته والعودة إلى رحاب ربه ولطفه وعنايته ورحمته.
وغني عن البيان، أن المسلم المكلف لا يواجه الله عز وجل بإرادة ذاتية مستعلية تعارض أوامره سبحانه ونواهيه.. فالإرادة التي لا تتقيـد بذلك إرادة ضالة مرفوضـة.. والإسـلام حريص على ألا يكون للمسلم ظاهر يخالف باطنه، أو إرادة خاصة مخبؤه يحتفظ بها لنفسه وأخرى يواجه بها الله تعالى والآخرين، يهتم الإسلام بألاّ يعيش المسلم بإرادة مزدوجة يتسرب بازدواجها في روحه وضميره، النفاق والجبن والرياء.. ومراد الإسلام كسر هذا الازدواج الخطر والانفصال بين قلب الإنسان بين سلوكه الخارجي الذى قد تفرضه ظروف غير قائمة على الحق والولاء له.. وتؤدى من ثم إلى السقوط في التفاهة وما لا يسيغه أو يقبله الإسلام.
تحدث أستاذنا محمد عبد الله محمد عن الفروق بين البشر في رائعته «معالم التقريب»، فلفت إلى مسألة الفروق بين البشر وانقسام الناس إلى قلة وكثرة، وإلى ظاهرة استعلاء البشر بعضهم على بعض، واصطناع العظمة والأبهة بعضهم على بعض.. فيلاحظ أن دين الله يدين أولاً وفى الدرجة الأولى الأقوياء الذين منهم وفيهم دائمًا أصحاب النفوذ والسلطة والغنى والمكانة، وفى يدهم تصريف وترتيب أمور الضعفاء أو المحكومين وتوجيه حياتهم العامة والخاصة.. وكذلك نجد أن عناية الإسلام البالغة في التعليم والتأديب والتهذيب والمراقبة … إلخ، موجهة أولا وفى الدرجة الأولى إلى أولئك الأقوياء باعتبارهم الكبار أصحاب النفوذ والكلمة المسموعة.
والقرآن المجيد يخاطب ويجادل ويفحم ويلجم في الدرجة الأولى، أولئك الكبار والأقوياء.. وإليهم يسوق وعيده وتنديده.. وإليهم في الدرجة الأولى، يتوجه إعجاز القرآن الحكيم، وعليهم انسابت ألفاظه وآياته المعجزة.
لم ولن يتغير القرآن بما حمله وسوف يبقى حاملاً إياه إلى آخر الزمان، ولكن الناس هم الذين تغيروا ويتغيرون.. فبعد أن كان القرآن في عنفوان الدين مدرسة صارمة لتعليم الأقوياء.. يلتزمون حدودهم صدوعًا لما أمر به، ابتعد هؤلاء بعد زمن الرسالة والراشدين، عما جاء به القرآن المجيد، وعطلوا دوره في رعاية الضعفاء بضبط حياة الأقوياء وسلوكهم وتصرفاتهم.. ولم يعد هؤلاء الأقوياء يتعاطون منه إلاَّ بلاغته دون هدايته.
ومع تعطل الاستجابة لتعاليم المدرسة الصارمة التي أقامها القرآن المجيد لتعليم وتقويم وتوجيه الكبار والأقوياء، تعطل عمل السدود التي أقامها القرآن والسنة في وجه عدم المبالاة.
والمتأمل منا يجد أننا وآباءنا من قبلنا إلى أجيال عديدة، نقف من الدين مواقف مختلفة، منها مواقف الأقوياء والمترفين الذين لا يجاوزون البحث والنظر كميدان للرياضة والنشاط الذهني والفني إلى «المبالاة» الواجبة بالإنسان الذى سيسألهم الله تعالى عن موقفهم منه وما قدموه له، ومنها مواقف الخائفين من مسائل الدين الذين يتجنبون الاقتراب منها حتى لا تورطهم في التبعات والمسئوليات، ومنها موقف الذين يشعرون أن حياتهم في حاجة شديدة إلى الإيمان والإسلام، ويجدّون بكل قواهم فـي السعـي لإشباع هذه الحاجة إشباعًا حقيقيًّا .. وهؤلاء هم معقد الرجاء وأمل دعوة التقريب بين المذاهب الأديان.
أهم ما يجب الالتفات إليه، أن تفشى «عدم المبالاة» بالروابط الإنسانية مرجعه في الواقع والحقيقة إلى بنية الحضارة الحديثة الحالية التي ساد فيها منطق التجريد حتى في الألعاب، وتقوم على إخضاع الإنتاج بالمعنى الواسع لهذه الكلمة للعقل وحده، أو ما يسمونه بعقلانية الإنتاج، وهى منطق صارم لا يقيم وزنًا ولا يبالى بالروابط الإنسانية ، ويتجاهل الإنسان ويحوله إلى شيء وينظر إليه نظرته إلى الأشياء ، ومن أخطر ما في عملية التشيىء، دفع الناس إلى الازدحام المادي، وضعف شعور الإنسان العادي بقيمته بل بذاته، وتعوده على قبول الإحساس بالضآلة.. ضآلة إرادته وعواطفه وقيمته، فتسترضى عنايته بما معه من الأخلاق والدين، ومن أسف فإنه صاحب هذا الاختزال الشديد، تقلص مستمر في الشعور بالواجب والمسئولية، وتراجع وهبوط قيمة هذا الشعور في جدول القيم التي يهتم بها إنسان هذا العصر !!