«وكذلك اليوم تُنسى»
«وكذلك اليوم تُنسى»
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 27/2/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
توقفت طويلاً، وتأملت أطول، حين تمعنت في قول الحق ـ عز وجل: « وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى » ( طه 124 ـ 126 )
ننسى في خضم اندفاعاتنا في رحلة الحياة، أن ما نلقاه فيها هو في الأصل لقاء ما أعطيناه، فيما عدا ما قد تجود به الحظوظ أو المقادير.. ويبدو أن هذه « الجودة » التي تأتينا من وقت لآخر حظًّا أو تقديرًا لا يد لنا فيه، تغمر عواطفنا وتصرفنا عن التفطن إلى القانون الكوني الأزلي الذي يوازن بين العمل أو العطاء وبين الناتج أو الثمرة.. واستمرار اللا تفطن ينحفر حتى يتحول إلى آفة النسيان التي تنحر بدورها من التبصر فضلا عن التفطن !
ومما جُبل عليه الآدمي، أن ينسى نعم ربه التي تغمره من ميلاده ولا تزال تغمره حتى وفاته، لذلك كانت الدعوة إلى « ذكر الله » وكان قوله في كتابه المجيد « وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ».. هو أكبر لأنه الذي يوقظ الانتباه إلى المثل الأعلى ـ عز وجل ـ والعرفان به، والتزام طريقه وحبله.. والآيات الثلاث التي توقفت أمامها طويلاً من سورة طه، قد جمعت من الدلالات والمعاني ما يوقظ الإنسان من سباته الذي يصرفه عن نِعَم ما يفيض به ربه عليه، فيعرض عن ذكره ولا يلتفت إلى أن إعراضه تفريط في حق نفسه فضلاً عن تفريطه غير المغفور في حق ربه. هذا التفريط يتراكم ويتغلغل فيه حتى يصيبه بعماء قد يغفل عنه ولا يتفطن إليه فيمعن فيما هو فيه من غىٍّ مرده إلى ابتعاده عن ربه.. فكان جزاؤه يوم القيامة من جنس عمله، فيحشر أعمى، ولا يدرك لماذا قد حُشر يوم الحشر أعمى مع أنه كان في الدنيا بصيرًا: مع أنه بصر كالعماء، محكوم بشرنقة الاعتياد التي يتحول بها الإبصار إلى مجرد رؤية مناظر أو وقائع أو أحداث دون التمعن فيها واستبصارها والتفطن إلى مغزاها ودلالاتها واستخلاص عبرتها.. فَيُقَال له ـ تذكرةً للأحياء في الدنيا ـ « كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ».
تذكر آيات الله، ليس مجرد ترديد باللسان، ولا قراءة كقراءة الببغاء وإنما هي عبادة صامتة متفطنة، تتأمل في عرفان فيوض هذه الآيات، بنعمها وما تدلى به إلينا وإلى غيرنا من معاني التوحيد والعرفان والخشوع والإخبات، ومن صدوع لخالقها ومبدعها الذي أنعم ــ عز وجل ــ بها علينا.
لم أجد عاصمًا من آفة النسيان وحصار شرانق الاعتياد والانصراف عن التفطن إلى معنى الحياة، من « ذكر الله ».. هذا الذكر استحضار واع لعظمة الله سبحانه، وإقرار صادع بربوبته، واستلهام لقدرته، وانصراف كامل لطاعته والإخبات له. هذا الاستحضار دائم يغمر القلب والضمير والوجدان، في ديمومته لا تقطعه احتياجات ولا شواغل ولا مصالح ولا هموم ولا أغراض.. هذا الذكر يأخذ الذاكر إلى ملكوت الله وإلى أنوار ربوبيته وجلاله وعظمته وقدرته وهيمنته، وإلى وحدانيته ورحمته وعدله وجوده وكرمه.. يتلاقى في هذا الذكر القلب واللسان والضمير والوجدان وشتى الجوارح التي يستغرقها الذكر فتحلق به في الآفاق العلوية وأنوار الإيمان ولآلئ اليقين.. فيتحقق للذاكر الخشوع القانت لعظمة رب العالمين المتجلية في كونه هذا العظيم.
الذاكر المدرك أن ذكر الله أكبر، لا يلهيه شيء ولا جاه ولا نفوذ عن ذكر الله عز وجل، ولا يصرفه عن ذكر ربه شاغلٌ من شواغل الدنيا، ولا يلهيه عنه عارضٌ ولا خاطر.
في القرآن المجيد: « وَاذْكُر رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ »(الكهف 24).. ذكر الله بتذكره واستحضاره بربوبيته وعظمته وجلاله وجماله وكماله استحضارًا تتضاءل أمامه كل مغريات الدنيا، ويتفتح به للذاكر بديع صنعه سبحانه وأسرار خلقه وعجائب سمواته وأرضينه. به يتصل الذاكر بالكون وبدائعه وأسراره بما فيه من إتقان وإبداع خالقه، وما يحفل به من نعم سابغة دالة على حكمته البالغة وقدرته النافذة ورعايته ـ جل شأنه ـ لمخلوقاته.