وحدة لغة الجزيرة العربية

وحدة لغة الجزيرة العربية

نشر بجريدة الشروق الخميس 15/10/2020

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

يتعسف ويخطئ من ينكرون وحدة لغة الجزيرة العربية قبل البعثة المحمدية بجيلين أو بثلاثة أجيال ، وهم لاهون ـ فيما يذكر الأستاذ العقاد في كتابه الضافي عن طوالع البعثة المحمدية ـ لاهون في اعتساف فروض أدبية لا تقبل التصديق تأييدًا لإنكارهم , ويضيف أنه ليس من قارئ للأدب يمكن أن يستسيغ القول بوجود طائفة من الرواة يلفقون أشعار الجاهلية العربية كما وصلت إلينا ويفلحون في ذلك التلفيق .

إذ معنى ذلك ( أولاً ) أن هؤلاء الرواة قد بلغوا ذروة الشاعرية التي بلغها امرؤ القيس والنابغة وطرفة وعنترة وزهير وغيرهم من فحول الشعراء في الجاهلية حتى يستطيعوا انتحال شعر يُنْسب إليهم ، ومعنى ذلك ( ثانيًا ) أنهم قادرون في هذا الانتحال على توزيع الأساليب على حسب الأمزجة والأعمار والملكات الأدبية، فينتحلون لكلًّ ما يوافق مزاجه ومناسباته وأحواله ، ومعنى ذلك ( ثالثًا ) أن هذه القدرة توجد عند الرواة ولا توجد عند الشعراء أنفسهم .

وعلى ذلك فما من ناقد يسيغ هذا الفرض ببرهان فضلاً عن إساغته بغير برهان ولغير سبب .

ونفهم من هذا أن الأستاذ العقاد يعارض معارضة شديدة مسببة ما كان قد اختطه الدكتور طه حسين في كتابه « في الشعر الجاهلي » , قبل أن يعدل ما جرى الاعتراض عليه ويعيد طبع الكتاب باسم « في الأدب الجاهلي » ، على أنه يحسب للأستاذ العقاد أنه برغم رأيه ـ قد وقف إلى جوار الدكتور طه حسين ودافع عنه بشدة إبان الأزمة، إيمانًا منه بحرية الرأي والتعبير .

ويستطرد الأستاذ العقاد إلى أن قبول هذه النظرية التي دحضها ، يفترض وبلا منطق ولا دليل ـ وجود الرواة المتآمرين على الانتحال , وبتلك الملكة القادرة على نظم أبلغ الشعر .

تزوير الأدب الجاهلي مستحيل

فحوى ما طرحه الأستاذ العقاد أن تزوير أدب كامل يُنْسب إلى الجاهلية مستحيل أو شبه مستحيل ، وإذا جمعنا كل الشعر المنسوب إلى الجاهلية في ديوان واحد ، لرأينا أنه من المستحيل أو شبه المستحيل أن نجمع ديوانًا يماثله من كلام العباسيين أو كلام الأمويين المتأخرين ، وإذا قل الفارق بين الشعر المخضرم والشعر الأموي الأول والشعر الجاهلي ، فتلك آية على صحة العلامات التي تميز الشعر الجاهلي ، وعلى صحة القرابة بينه وبين الشعر الذي لم يفترق عنه افتراقًا بعيدًا بزمانه وثقافة قائليه وبيئاتهم فى المعيشة ومناسبات التعبير .

المستشرقون وسوء الفهم

وسوء النية

وكثير من المستشرقين يقرنون سوء الفهم بسوء النية ، لأنهم يخدمون سياسة المستعمرين أو سياسة المبشرين المحترفين أو ينظرون في بحوثهم نظرة الغربي الذى ينظر إلى الشرقي نظرة المتعالي عليه في حاضره وماضيه . غير أنهم ما عدا القليل منهم محدودون سطحيون يحومون حول المسائل الحسية ولا يتوسعون في النظر أو يتعمقون وراء الظواهر التي يلمسها شاهد الحس لمسًا فلا تخرج عنده من حدود ما يثبته أو ينفيه من وقائع العيان والسماع .

وغاية ما يقصدون إليه من أمر اللغة أنهم يلتمسون الأسانيد فيأخذونها بالشك

والتجريح ، ويسعون إلى هدم الدعائم القائمة لخدمة كل ادعاء وكل إنكار ، وهم في تشكيكهم كالمنازع الذى ينكر على صاحب الدار وثيقته ولا يتجاوزها إلى أركان الدار, وتقديرهم لمسألة الشك في وحدة اللغة أقل جدًّا من قدرها الصحيح في مقدمات الدعوة المحمدية ، إذ هي أصلح هذه المقدمات للدلالة على ما بعدها ، وأصدق في التمهيد لنتائجها في طريـق الدعوة المحمدية.

الفخر باللسان العربي

إن الشعور بالعربية والفخر باللسان العربي مقدمة لا بد منها ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ للدعوة التي تواجه العرب بآية البلاغة في القرآن الكريم .

ووحدة اللغة القرشية أو الحجازية لا تصبح من مفاخر العرب جميعًا كرامة لقريش أو لأرض الحجاز , ولكنها خليقة أن تسرى إلى نفوس العرب من حيث يشعرون بالعروبة الموحدة عالية الرأس غير مستكينة لسلطان من « العجم » على الخصوص .

والكعبة هى الجوار الوحيد الذى يشعر عنده العرب هذا الشعور .

وشعورهم هنا بأنهم « عرب » لم يماثله شعور قط فى أنحاء الجزيرة العربية , وقد أوشك أن يشمل شعب اليمن وجمهرة أقوامه على الرغم من سادته وحكامه , فما كان هؤلاء الحكام لينفسوا على الكعبة مكانها ويقيموا لها نظيرًا فى أرضهم لو كان شعب اليمن منصرفًا عنها غير معتز بها كاعتزاز البادية والصحراء .

وحدة الكعبة

وافق ما أسلفه الأستاذ العقاد من أحوال شبه الجزيرة العربية ، زوال عرش الحيرة وعرش حمير ، واستكانة الغساسنة فى الشام .. للروم تارة ، وللفرس تارة ، بلا ولاء لهؤلاء أو أولاء ، وببقية من الفخر أنهم العرب .

ولا شك أن إبقاء الإسلام على مكانة الكعبة دليل على حكمة الاحتفاظ بها رمزًا وقبلةً للعالم الإسلامى على اتساعه العميم ، حتى صارت عاصمة روحية للدين الجديد .

ولو لم تكن للعرب وحدة معروفة بينهم قبل البعثة الإسلامية ، لما اعتزوا جميعهم بالبيت العتيق الجامع لهم هذا الاعتزاز ، فضلاً عن وحدة اللغة واللسان .

ومن التاريخ الثابت ، فيما يشير الأستاذ العقاد ، أن أبناء الجنوب العربى لم ينقطعوا عن الشمال ، ولم تزل لهم آثار مكتوبة فيه إلى الآن ، وقد وُجدت بعض هذه الآثار بالخط الجنوبى واللغة الشمالية مما يدل على تشابه الكلام والنطق مع بقاء الكتابة بخط الجنوب .

وقد حدثت فى تاريخ الجنوب حوادث متعاقبة نقلت زعامة الشمال إلى الشماليين وجعلت أهل الجنوب تبعًا لهم كلما وفدوا إلى الشمال ، وكان ذلك بعد قيام الدولة النبطية التى ازدهرت فى القرن الرابع للميلاد .

وقد كان من أسباب ضعف الجنوب وقيام دولة النبط فى الشمال ، اضطراب أحوال اليمن بعد حروب الإسكندر ، وانهيار سد مأرب ، وانتشار القراصنة فى الخليج وبحر العرب والبحر الأحمر ، وغلبة طريق القوافل التى تمر بالحجاز على الطرق الأخرى .

وبمضى قرون على اتصال النبط بالحجاز ، جعل النبطيون يعظمون ما يعظمه الحجازيون ، فأقاموا تماثيل يعبدونها للأرباب كهبل واللاّت ومناة على غرار الأصنام التى كانت بالكعبة وفيما حول مكة ، وروى أن « عمرو بن لحى » نقل أصنامًا من بلاد النبط إلى الكعبة.

وبقى إعظام شأن الكعبة كمفخرة قومية وحرم إلهى ، حتى بعد سيادة الروم على غسان وتقلب الحبشة والفرس على اليمن . ثم جاءت وقعة « ذي قار » التي انتصر فيها العرب على الفرس بعد زوال دولة اللخميين فهزت الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها ونمت على نخوة قومية عربية تمكنت من نفوس القبائل جميعًا .

وقد صار فخر العرب بأنسابهم وجنسهم فيما بينهم ، وحلول اللغة عندهم محل العرش والدولة ـ صار علامة من العلامات التي تميزوا بها في عرف علماء الأجناس البشرية .

وظاهرة مكانة اللغة العربية وفخر العرب بها ، ظاهرة جليّة كفيلة بأن توضح للمستشرقين بغير بحث ولا عناء ـ أنه من غير المنطقى بل من المحال أن يجىء القرآن بمعجزة لغوية لأمةٍ خلت من مأثورات البلاغة في شعرها وجوامع كلماتها ، حتى احتاجت لانتحال شعر يسد هذا الفراغ ، فما ذلك بمعقول ! وإنما المعقول الواضح الجلىّ أن القرآن نزل ببلاغته إلى قوم تميّزوا ببلاغة لغتهم وأشعارهم ، وليس من القياس المستقيم إذن الرجم بأن البلاغة الجاهلية لم تكن حقيقة واقعة ، وأنه اصطنعها الرواة اصطناعًا بعد الإسلام مساندةً للقرآن . فهذا قياس ضرير يغفل أن الجاهلي الكافر ما كان ليقدم على شىء من ذلك الانتحال مساندةً لقرآن لا يؤمن به !

زر الذهاب إلى الأعلى