هل يشكل الدعاء على شخص جريمة سب؟
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
الأصل أن الدعاء على شخص أو تمني الهلاك له أمر محرم دينياً. وقد كان أولياء الله لا يدعون على من ظلمهم، تأسياً بالأدب النبوي، فالنبي كان قد تعرض لأنواع وألوان من العذاب والأذى وحين دعا الله قال «اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون». وتأسياً واقتداء بالأدب والهدي النبوي، كان أولياء الله ينشغلون بذكر الله ويدعون لمن ظلمهم بالهداية.
وفيما يتعلق بحكم قراءة سورة يس، أو ما يطلق عليه عموم الناس عدية يس، على الظالم، أكدت دار الإفتاء المصرية أن القرآن الكريم إنما نزل للتزكية والهداية لا للأذى، ولذلك إذا آذى أحداً غيره فعليه أن يقرأ سورة يس بنية أن يصرف الله عنه الأذى. إن سورة يس قلب القرآن وجاء أيضاً أنها لما قرأت لها، فإذا قرأت بنية صالحة استجاب الله تعالى، فيجب على الإنسان أن يقرأها دائماً بنية أن يحفظه الله أو يشفيه الله أو أن يرد حقه من الظالم ويبعد أذاه عنه.
وفيما يتعلق بحكم دعاء المظلوم على الظالم، أكدت دار الإفتاء المصرية أن خلق الرحمة معناه الإحسان أو رقة في القلب تقتضي إرادة الإحسان إلى الغير، فخلق الرحمة يتنافى مع شعور الشماتة. ومع ذلك، فإن دعاء المظلوم على الظالم يكون أمر مشروع ولكن الدعاء يكون بحدود المظلمة فإن تعدى المظلوم بالدعاء على ظالمه بما يفوق المظلمة تحولت الأدوار وبقي المظلوم ظالماً.
إذ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم. والأولى أن الانسان يدعو أن يكف الله ظلم الناس عنه. ولكن، هذه أحوال ومقامات فمن الناس يدعو على من ظلمه ولا يستطيع الا هذا، ومنهم من يستشعر أن هذا قدر الله فيصبر ويسامح وهذا مقاماً أعلى. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة والتابعين قول «اللهم اعفو عمن ظلمني». والعفو عند المقدرة ألا تحمل في قلبك كراهية لأحد، وأن تستطيع الوصول على ألا تحمل مظلمة لأحد. فالوصول لتلك المرحلة، وهي أن تستشعر أن كل شيء بقدر الله وأمره وأن الله سبحانه حكيم في قدره فأنت راض بما قدر لك. ويعلمنا الرسول أن نترقى وأن نسمو عن أحقاد الناس، فإن وصلت لذلك، فبها ونعمت، وإن دعوت فيكون ذلك بمقدار الظلم الواقع عليك، فلا تعتدي بالدعاء حتى لا توصف بالاعتداء بعدما كنت مظلوماً.
هذا من الناحية الدينية. أما من الناحية القانونية، فإن التساؤل يثور عما إذا كان الدعاء على شخص أو تمني الشر له يشكل جريمة سب، ويندرج بالتالي تحت طائلة التجريم والعقاب. والفرض في الحالة التي نحن بصددها أن كل ما صدر عن الشخص مجرد تمني الشر أو الدعاء على شخص بحدوث ضرر له في قادم الأيام، دون أن يكون هذا الدعاء مصحوباً ببيان سبب الدعاء، متمثلاً في إسناد أمر واقعة أو صفة مشينة له. كأن يكون الدعاء على شخص آخر مصحوباً بعبارة اللص أو الحرامي على سبيل المثال. ففي هذه الحالة، تتوافر جريمة السب بإسناد الصفة المشينة للمجني عليه، بغض النظر عن صدور ألفاظ الدعاء أو تمني الشر. أما إذا كان كل ما صدر عن الشخص هو مجرد الدعاء أو تمني الشر، فهنا يكون التساؤل عما إذا كان ذلك في ذاته يندرج تحت النموذج القانوني لجريمة السب.
وفي الإجابة عن هذا التساؤل، وباستقراء أحكام القضاء وآراء الفقهاء، يبدو سائغاً التمييز بين اتجاهين؛ أحدهما، يقول بتوافر جريمة السب. أما الاتجاه الآخر، فيذهب إلى انتفاء جريمة السب. وسنحاول إلقاء الضوء على الاتجاهين سالفي الذكر، بحيث نخصص لكل اتجاه منهما مطلباً منفصلاً، ثم نتبع ذلك ببيان رأينا في هذا الشأن في مطلب مستقل، وذلك كما يلي:
المطلب الأول
الاتجاه القائل بتوافر جريمة السب
يرى بعض الفقه أنه يعد خدشاً للشرف والاعتبار، ومن ثم يقوم به السب أن يتمنى المتهم الشر للمجني عليه في صورة الهلاك أو السقوط أو الخراب، إذ يعني ذلك التعبير عن رأيه فيه بأنه غير جدير بمركزه الاجتماعي الحالي وما يفترضه من مؤهلات وما يرتبط به من نجاح، وهذا الرأي ينطوي على ازدراء له (راجع: د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، وفقاً لأحدث التعديلات التشريعية، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الرابعة، سنة 2012م، رقم 948، ص 799).
وهذا الرأي هو المقرر في قضاء النقض المصري، حيث ذهبت المحكمة الكائنة على قمة القضاء العادي في مصر – في العديد من أحكامها – إلى أن القول «فليمت فلان أو ليسقط أو ليخرب بيته أو ليهلك أولاده»، كل ذلك يعد سباً له (راجع على سبيل المثال: نقض 6 مايو سنة 1911، المجموعة الرسمية، س 12، ص 212؛ نقض 28 فبراير سنة 1929م، مجموعة القواعد القانونية، ﺠـــ 1، رقم 179، ص 200؛ نقض 20 مايو سنة 1929م، مجموعة القواعد القانونية، ﺠـــ 1، رقم 271، ص 316؛ نقض 14 أكتوبر سنة 1947م، مجموعة القواعد القانونية، ﺠـــ 7، رقم 394، ص 376).
المطلب الثاني
الاتجاه القائل بانتفاء جريمة السب
في دولة الإمارات العربية المتحدة، وفي حكمها الصادر بتاريخ الثالث من يناير 2023م، وبمناسبة الطعن رقم 619 لسنة 2022 جزائي، قضت المحكمة الاتحادية العليا بأن «المقرر – في قضاء هذه المحكمة – أن السب يعني الشتم بإطلاق اللفظ الصريح الدال عليه وهو المعنى الملحوظ في اصطلاح القانون الذي اعتبر السب كل إلصاق لعيب أو تعبير يحط من قدر الشخص أو يخدش شخصه والمرجع في كل ذلك وفي تعرف حقيقة السب ما يطمئن إليه القاضي في تحصيله لفهم الواقع في الدعوى وأن يستخلص وقائع السب من عناصر الدعوى وتبيان مرامي عبارات السب ولمحكمة النقض أن تراقبه فيما رتبه من نتائج إنزال حكم القانون على وجهه الصحيح.
ولما كان ذلك، وكان الثابت من الاطلاع على مدونات الحكم المطعون فيه أنه قد أقام قضاءه بتأييد إدانة الطاعن بالتهمة المسندة إليه أخذا من اعترافه بالاستدلالات وأمام محكمة أول درجة من أنه قام بإرسال عبارات السباب وهي (حسبي الله ونعم الوكيل فيك الله يمرضك ويمرض أبناءك وأن شاء الله ما تحصلون على علاج، وتهديده بالقضاء وذلك عن طريق الواتساب). وذلك دون تبيان أركان جريمة السب وعما إذا كانت الرسالة التي أرسلها المتهم تدل على قيام هذه الجريمة ودون تبيان أن العبارات التي أرسلها الجاني للمجني عليه عن طريق واتساب ينطبق عليها التعريف الوارد اصطلاحاً لجريمة السب.
وكان الطاعن أحيل للمحاكمة عمال بالمادة 43 /1 من المرسوم بقانون اتحادي رقم 34 لسنة 2021 وهي معاقبة كل من سب الغير أو أسند إليه واقعة من شانها أن تجعله محال للعقاب أو الازدراء من قبل الآخرين، ومناط التجريم في هذه المادة هذه أن يقوم الجاني بشتم المجني عليه بإطلاق اللفظ الصريح الدال على ذلك أو إلصاق عيب أو تعبير يحط من قدره أو يخدش شخصه والثابت من إفادة المجني عليه بتحقيقات النيابة العامة أنه لم يقل إن الجاني قد سبه وإنما جاءت أقواله على أن المتهم الطاعن دعا عليه بالمرض وعلى أبنائه وألا يجدوا العلاج وقد جاءت أقوال المتهم أمام المحكمة بإرسال الرسالة بيد أنه أنكر السب وإن الرسالة لا تدل على الحط من قيمة الشخص أو تحط من قدره وإنما كانت من قبيل الدعاء على المجني عليه كرد فعل على المجني عليه من على المتهم والأخر لسبب منعه من السفر كونه مريضاً وكان طالباً العلاج والدعاء على شخص لا يعد سباً بالمعنى الذي ذكرناه ولئن كان لا يجوز الدعاء على الشخص وهو مؤثم ديانة إلا أنه لا يجعل الشخص محلاً للعقاب قضاءً، ومن ثم فإن استخلاص محكمة الموضوع للوقائع لم يكن سائغا ذلك أن الدعاء على شخص لا يعد سباً من المعنى الوارد بالمادة 43 /1 سالفة البيان مما يتعين معه براءة الطاعن مما أسند إليه، وإذ خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر وقضى بتأييد إدانة الطاعن فإنه يكون معيبا بمخالفة القانون بما يوجب نقضه والتصدي عمال بنص المادة 249 /2 من قانون الإجراءات الجزائية».
وفي الاتجاه ذاته، وفي دولة الكويت، وبتاريخ الثالث والعشرين من ديسمبر 2018م، وبمناسبة الطعن رقم 703 لسنة 2018م تمييز الجنح المستأنفة/ 2، قضت محكمة الاستئناف، دائرة الطعون بأحكام الجنح المستأنفة (التمييز) بأنه: حيث إن واقعة الدعوى سبق وأن بينها الحكم المستأنف وتحيل إليه المحكمة منعا للتكرار وتوجزها فيما ابلغ به – …………….. بأنه تعرض للإساءة من قبل صاحبة الحساب (………………….) حيث قامت بوضع صورته الشخصية في حسابها سالف الذكر في موقع التواصل الاجتماعي (تويتر) وعلقت عليها بعبارة «حسبي الله ونعم الوكيل فيكم وبكل واحد ماشي بطريجكم ما تعرفون الصح ماشين غلط# إلا – الكويت». وحيث أنه وبسؤال المتهمة – …………………. عما أسند إليها من اتهام أنكرت ذلك. وحيث أن تحريات المباحث المؤرخة في 4/6/2017 أفادت بأن المتهمة قد أقرت بأن الحساب يعود لها فعلاً. وحيث أرفق بالأوراق صورة من التغريدة الصادرة من الحساب الذي يحمل اسم – المحامية ………… (………………….) ومكتوب فيها بعد وضع صور المتهمين ومنهم صورة الشاكي «حسبي الله ونعم الوكيل فيكم وبكل واحد ماشي بطريجكم ما تعرفون الصح ماشين غلط # إلا – الكويت».
وحيث أنه من المقرر أن استخلاص توافر القصد الجنائي في جريمة السب والقذف أو انتفاؤه من وقائع الدعوى وظروفها من اختصاص محكمة الموضوع دون معقب ما دام موجب هذه الوقائع والظروف لا يتنافر مع هذا الاستنتاج. وحيث أن الثابت بهذه المحكمة من خلال مطالعة التغريدة الصادرة من قبل المتهمة أنها جاءت بعد وضع صورة المتهم بعبارة «حسبي الله ونعم الوكيل فيكم وبكل واحد ماشي بطريجكم ما تعرفون الصح ماشين غلط # إلا – الكويت». ولما كان المقصود بعبارة حسبي الله ونعم الوكيل أن الله كافي من قال هذه الكلمة والله تعالى وكيله في دفع الشر عنه، فكلمة حسب أي يكفي، حسبك كذا أي يكفيك كذا، فحسبي الله أي يكفيني الله من أي شيء مما همك أو أمر تخاف منه وقد وردت بقوله تعالي في سورة آل عمران – الآية 173 الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل.
ولما كانت المتهمة قد أرادت بهذه العبارة الدعاء لدولة الكويت بأن يبعد الله عنها كل شر وبأن يحفظ هذا الوطن من كل مكروه ولا ترى المحكمة بهذه العبارة ما يشكل جرما معاقب عليه وهو ما تقضي معه المحكمة ببراءتها مما اسند إليها من اتهام. لما كان ذلك، وإذا كانت هذه المحكمة قد خلصت عند نظر الدعوى الجزائية إلى أن الفعل المسند للمتهمة لا يكون جريمة فإن مؤدى ذلك ولازمه هو القضاء حتما بعدم الاختصاص في نظر الدعوى المدنية وإذ كان الحكم المستأنف قد انتهى إلى هذه النتيجة فإنها تقضي والحال كذلك برفض الاستئناف وتأييد الحكم المستأنف.
المطلب الثالث
ترجيح الاتجاه القائل بانتفاء جريمة السب
تحدد قوانين العقوبات العربية ماهية السلوك الإجرامي في جريمة السب، مؤكدة أنه يتمثل في «خدش الشرف أو الاعتبار، بأي وجه من الوجوه، دون أن يتضمن ذلك إسناد واقعة معينة» (راجع على سبيل المثال: المادة 306 من قانون العقوبات المصري رقم 58 لسنة 1937م؛ المادة 426 من قانون الجرائم والعقوبات الصادر بالمرسوم بقانون رقم 31 لسنة 2021). وعرفت محكمة النقض المصرية السب بأن المراد به في أصل اللغة هو الشتم، سواء بإطلاق اللفظ الصريح الدال عليه أو باستعمال المعاريض التي تومئ إليه، وهو المعنى الملحوظ في اصطلاح القانون الذي اعتبر السب كل إلصاق لعيب أو تعبير يحط من قدر الشخص نفسه أو يخدش سمعته لدى غيره.
ومنظوراً للأمور على هذا النحو، وانطلاقاً مما سبق، نرى أن إلصاق العيب يعني إسناد صفة مشينة للشخص، وبحيث يدل القول الصادر عن الجاني على وجود هذه الصفة المشينة فعلاً لدى المجني عليه وقت صدور ألفاظ السب، وأن الشخص يتوفر لديه وقت ارتكاب الجريمة هذه الصفة المشينة. ومن ثم، لو صح هذا الإسناد لأدى ذلك إلى خدش شرفه أو اعتباره. وهكذا، فالقول عن شخص إنه لص، يعني اسناد صفة معينة له فعلاً، وتتوافر به بالتالي جريمة السب. أما تمني الشر، فلا ينطوي على إسناد أي أمر أو صفة في الوقت الحالي، وإنما هو فحسب تمني حدوث شر أو ضرر في المستقبل. بل إن الدعاء وتمني الشر قد يحمل في ذاته الدلالة على أن المركز الاجتماعي الحالي للشخص متميز، ومن ثم كان الدعاء عليه وتمني الشر له في قادم الأيام. فالأمر هنا إنما يتعلق بمجرد التعبير عن شعور بالكراهية، دون أن يتضمن في ذاته إسناد عيب معين له. ومن ثم، لا يتوافر في رأينا النموذج القانوني لجريمة السب.