هل ندم «الهلباوي» على اشتراكه في حادثة دنشواي؟.. وسر مقولة “هو أنت هتبيع لي لسان الهلباوي!!”
تقرير: أشرف زهران
“هو أنت بتبيع لي لسان الهلباوي؟”.. مقولة شاعت في الأرياف قديما بين الجزارين ومشتري اللحوم، إذ كانت تلك الجملة تقال من المشتري للبائع كنوع من المساومة، إذا كان لسان الذبيحة غالي الثمن، في إشارة لفصاحة إبراهيم الهلباوي القادر على إقناع القضاة ببراءة أو إدانة من يشاء، ولذلك، ذاع صيت الهلباوي، كمحامٍ بارع، ومفوه وذا عقلية متفردة عن غيره ممن يعملون في مهنته.
وفي أحد أيام 1906، ضحّى الهلباوي بالكثير من شعبيته، واختار القفز إلى مركب الإنجليز، وترافع كمدعٍ عام ضد فلاحي دنشواي، لاحقًا، عندما اكتشف فداحة ما أقدم عليه، فقدم العديد من الحجج التي يبرر بها فعلته، مثل أنه كان في طريقه إلى المتهمين ليتولى الدفاع عنهم إلا أنه وجد مصطفى باشا فهمي ناظر النظار ينتظره في محطة القطار ليسبق إليه ويتفق معه على أن يكون محاميًا عن الإنجليز، وحجة أخرى تقول بأنه أراد أن يعمل بمنطق “الإصلاح من الداخل، ولذلك قبل بالعمل في القضية ومن ثم كرس كل مجهوده لتخفيض عدد المحكوم بإعدامهم من المصريين من 51 إلى 10؛ يقول: “سافرت إلى دنشواي وانتظرت حتى انتهت التحقيقات، ورأيت أن حكمدار البوليس طالب بإعدام 51 متهمًا فأبيت إقرار ذلك وانتهى الأخذ والرد بقبول رأيي بأن يقتصر طلب الإعدام على 10 فقط قبل يوم من المرافعة دعوت لغرفتي بشبين الكوم الأساتذة المحامين (أحمد بك لطفي السيد، ومحمد بك يوسف، وإسماعيل بك عاصم) عن المتهمين، وأطلعتهم على كل النقاط التي سأستند عليها في دفاعي ضد المتهمين كي لا يُفاجأوا في الجلسة”.
وكان يترأس القضاة في تلك الواقعة بطرس غالي وأحمد فتحي زغلول باشا، الأخ الأكبر للزعيم المصري سعد زغلول والذي كان في أثناء المحاكمة في فرنسا لدراسة القانون الفرنسي وقد قاطعه أخوه سعد زغلول بسبب ترأسه لتلك المحكمة , وكان مدعي النيابة “ابراهيم الهلباوي باشا”، و كان اللورد كرومر هو الحاكم الإنجليزي في مصر في ذلك الوقت.
وبالفعل، نجح الهلباوي ليس فقط في تبرئة جنود الاحتلال الإنجليزي من قتل “أم صابر” وحرق أجران القمح في قرية دنشواي، وإنما نجح أيضا فى إثبات أن الإنجليز هم الضحايا، وأن أهالي دنشواي هم المذنبون.. ووفقا لما نشرته جريدة “الأهرام”، وتحديدا في 25 / 6 / 1906 قال إبراهيم الهلباوي أمام محكمة دنشواي: (الاحتلال الإنجليزي لمصر حرر المواطن المصري وجعله يترقى ويعرف مبادئ الواجبات الاجتماعية والحقوق المدنية!!).. وقال أيضا: (هؤلاء الضباط الإنكليز، كانوا يصيدون الحمام في دنشواي، ليس طمعا فى لحم أو دجاج، ولو فعل الجيش الإنكليزي ذلك لكنت خجلا من أن أقف الآن أدافع عنهم!!).. وقال الهلباوي أيضا: (هؤلاء السفلة، وأدنياء النفوس من أهالي دنشواي، قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الإنكليز بالعصى والنبابيت، وأساءوا ظن المحتلين بالمصريين بعد أن مضى على الإنكليز بيننا خمسة وعشرون عاما، ونحن معهم في إخلاص واستقامة .
وعليه: وبفضل ما أبداه إبراهيم الهلباوي هو وغيره يومها من إخلاص واستقامة في الدفاع عن جرائم المحتلين الإنجليز، تم تعليق أهالي قرية دنشواي على أعواد المشانق.. فنبذه ولفظه عموم المصريين، وهاجمه مصطفى كامل، وعباس العقاد، وحافظ إبراهيم، وأحمد لطفي السيد، ومحمد حسين هيكل، بل ووصفه عبد العزيز جاويش على صفحات جريدة “اللواء” بجلاد دنشواي، وراح المصريون يطاردونه كلما رأوه هاتفين (يسقط جلاد دنشواي).. أما بطرس باشا غالى الذي رأس محاكمة دنشواي وأصبح بعدها رئيسا لوزراء مصر.. ففى 20/2/1910 اقتص منه لأهالي دنشواي صيدلي شاب اسمه “إبراهيم ناصف الورداني” وأطلق عليه الرصاص فقتله في الحال.. ولما علم إبراهيم الهلباوي باغتيال بطرس غالى، وسمع الأهالي يغنون لمن اغتاله: (يا ميت صباح الفل على الورداني) لم يهدر الهلباوي فرصة التكفير عن سقطته، وقرر أن يدافع هذه المرة عن الورداني نفسه.. ونقلا عن مذكرات إبراهيم الهلباوي التي أصدرتها الهيئة العامة للكتاب عام 1995 وقف الهلباوي في المحكمة يقول نصا: (المصريون كلهم كرهوا محاكمة دنشواي، واحتقروا كل من شارك فيها ودافع عن المحتلين الإنكليز.. ولست هنا في مقام التوجع ولا الدفاع عن نفسي.. ومع ذلك أستطيع أن أؤكد أن الشعب المصري يحتقر كل من يدافع عن المحتلين أو يأخذ صفهم أو يبرر جرائمهم.. وأؤكد أيضا أن مواطنينا لم يقدروا الظروف التي دفعتني أنا وغيرى إلى ذلك.. لهذا جئت للدفاع عن الورداني الذي قتل القاضي الذي حكم على أهالي دنشواي بالإعدام.. جئت نادما استغفر مواطنينا عما وقعت فيه من أخطاء شنيعة.. اللهم إني استغفرك وأستغفر مواطنينا.