هل تصلح اللغةُ العاميَّةُ لأن تكون لغةً قانونيةً ؟!
بقلم/الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
[المحامي، وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية ]
نعم هنا مشكلةٌ حقيقيَّةٌ في لغة السادة القانونيين المكتوبة والمنطوقة، فعُدَّةُ كثير منهم هي اللغة العامية، وهي وإن طنطنت مفرداتُها وراقتك جملُها وبلغت أقصاها رشاقةً وخِفَّةً فهي موصومة بالعامية..! قُصارها التخاطب بالوجدانيات والتواصل بالعموميات وتبليغ المعاني الطارئة ونقل الحس الشائع عن الأشياء، فهي لغة بلا قاعدة.. لا يستقيم عليها خطاب قانوني رسمي، ولا ينهض بها حماية حق أو مصلحة مشروعة.. فضلا عن بناء قاعدة قانونية أو تشييد نص تشريعي ..!!
***
إنها وبحق أزمة داهمة…!!
ألا وهي أزمة ضعف اللغة القانونية المكتوبة والمنطوقة معا وفوضى تكوينها وتضارب تفسيرها، بين القانونيين وفي مؤسسات القانون وكياناته وأجهزته القضائية على وجه الخصوص، وظواهر هذا الضعف جلية واضحة في النطق بالأحكام القضائية – على وجه الخصوص- وفي ضعف صوغها وتفكك نظمها كما الشأن نفسه في عموم المكاتيب القانونية (الرسمية والعرفية )، فضلا عن مظاهر اللحن الجلي المقيت في المرافعات والمشافهات وفي عموم الخطاب القانوني الرسمي.. ووقائعها وأحداثها ماثلةً بين يدي الناظرين..!! أخطاء فاحشة وعامية طاغية…! وعربية ركيكة قصاراها التقليدية والنمطية دون جديد ولا تجديد….!!!
ولولا المقام العلمي ومحاولة التلطف والمجاملة لقلت: إنها طامة وليست ظاهرة، وإنها -وبحق- كارثة وليست مجرد مشكلة، ولعل نتائج الدراسة المسحية التي قمت بها لما يقارب عشرة آلاف صفحة وحساب على مواقع التواصل الاجتماعي للسادة القانونيين ( على الفيس بوك وحسابات الواتس اب … وقد نأتي على تفصيلاتها ومنهجيتها وفئاتها.. وكافة مخرجاتها لاحقا) ما يدعم ذلك .
فتخلف اللغة القانونية يعني فقدان السيطرة على نصوص القانون ومكتوباته بناء ودلالة في العموم، وتفصيلا يعني التخبط والعشوائية في بناء النص القانوني وبناء لغات القانون الرسمية وتلك العرفية … !!
وهو – طبقا لمفاهيم ومقتضيات القواعد والتنظيمات اللغوية القانونية – ما يعني العجز بجدارة عن فهم نصوص القانون ومكتوباته وضعف القرائح عن استخلاص أحكامها وأن ما استخلص من أحكام مصيره الفساد والبطلان.. فضلا عن عجز أطراف التداعي في تقرير حقوقهم وتبيان حججهم إلى غير ذلك من مشكلات… ولا يخفى آثار ذلك على الجمود القانوني وعدم تطوره ومن ثم تخلفه وارتكاسه… !!
وما النظام القانوني وجهازه القضائي إلا قواعد لغوية قانونية موضوعية… وتنظيمات إجرائية مكتوبة… وأوراق مسطورة ومعان مقولة… ومرافعات ومداولات لحفظ الحقوق وحماية المصالح .. !!
وعلى قدر ضعف اللغة القانونية يكون ضعف فعاليتها وبطء العدالة وتخلف نجازتها، مع ضعف فعالية المرافق العدلية والمؤسسات القانونية … ! وتشوش نظامها التواصلي القانوني.. تصاب العدالة بالشلل وتضيع الحقوق وتهدر المصالح…!!
وإنها لإحدى العظائم أن يدرأ بعض القانونيين ممن يتوجب عليه أن يلم باللغة العربية فضلا عن اللغة العربية القانونية أو اللغة القانونية – باعتبارها أحد أهم أدواته في الفهم والاستنباط والصياغة القانونية- ليقول لك نحن رجال قانون ولسنا رجال لغة…!!!
وهل القانون إلا علم اجتماعي ومكتوبات ومشافهات يقوم باللغة ويُفهم باللغة ويَحكم فيه اللغة؟!
فهي جوهره ووعائه وهي شكله وأداته، والقصور عنها قصور في القانون والترقي فيها رقيٌّ للقانون.. !!
وبمثل هذه الحجج الزائفة كان انهيار اللغة العربية ابتداء؛ فضلا عن انعدام وجود كيان لغوي لها باسم: “اللغة القانونية” -كيان يُعنى بمسائلها ويقعد لأصولها كما هو الشأن في مبحث: “القواعد الأصولية اللغوية “على المستوى الدلالي- دع عنك إيجاد كيان علمي باسم “علم اللغة القانونية” ( إلا أقل القليل في بعض من المستويات اللغوية القانونية فحسب.
ولا ريب أن هناك محاولات شريفة ودعوات عظيمة في سبيل النهوض باللغة عموما وباللغة القانونية خصوصا، ولكنها من الندرة بمكان، ولنتفق معا أنه لا يقاس على النادر ولله الشاعر الإلبيري القائل:
ولربما قد شذ عنها نادر ……………….. وأصولنا ألا يقاس بنادر
وبمثل ما سبق من المقولات الفارغة أيضا تتعاظم ظواهر تلك المشكلة وتتفاقم وليتها كانت مشكلة إقامة الجملة برفع فاعلها ونصب مفعولها فما أيسر هذا..!! بل صلب المشكلة يتجلى في نقاط ثلاث وهي :
الأولى: ضعف التعبير والتواصل القانوني في عمومه، بدءا من الصياغة والنظم المُحكم للنص القانوني ومتعلقاته الكتابية (سواء كانت كتابات رسمية تقريرية أو كتابات عرفية أو مساعدة) وكذلك متعلقاته الشفاهية (حيث المرافعات والمشافهات والخطب والمخاطبات القضائية أو القانونية) ثم ضعف عموم عمليات الاتصال والتواصل القانوني والخطاب القانوني في جملته، بما يُسقط هيبةَ النصوص والأحكام ويقلِّل فاعليتها وآثارها في الضبط والتنظيم ولهذا تفاصيله فيما بعد.
الثانية : عدم وجود أساس أو مرجعية علمية -قواعد عامة منضبطة أو علم قانوني لغوي أو أية ضوابط فنية معيارية – يمكن الرجوع إليها لبناء وتقويم التعبير القانوني أو الخطاب القانوني بعامة على الوجه العلمي الصحيح، ولإنجاز بناء القاعدة القانونية وبناء لغات القانون وفهمها وتفسيرها واستخلاص الأحكام والمقاصد التشريعية منها وفق صحيح القانون وعلى ما أراده المشرع وقصده.
الثالثة: حلول التنازع والتخالف -بناء على فقدان ما سبق – في فهم القواعد القانونية وتفسير ومدلولاتها وتأويل متعارضها والجمع بين أطرافها…بين القانونيين المشرعين والقضاة وفقهاء القانون … وبين أطراف المعاملات القانونية .
وما سبق هو تقريب للمشكلة على سبيل الإجمال من خلال وصفها وسببها وما يمكن أن يترتب عليها، وتفصيلها وذكر ظواهرها أسلفنا ذكر بعضها وسنأتي على باقيها، ويكفينا الإشارة إلى أثرين رئيسين لها:
أولهما: بطء العدالة وانتفاء نجازتها، وبل قد تتجاوز الأمور حدودها حال فساد البناء وبطلان الاستنباط بما يمكن معه قلب العدالة إلى ظلم بين فيغدو المجني عليه جانيا والجاني مجنيا عليه …!
ثانيهما: طروق التساؤلات الجدية قانونيا وفقهيا ومجتمعيا حول تأسيسات الأحكام وتأصيلاتها، فضلا عن حلول تريُّبات لدى البعض من الأحكام بالجملة، وقد يصعدُ هذا التريُّب لدى بعض ضعاف النفوس إلى مُصدري الأحكام وإلى مؤسساتها بالجملة، نسأل الله الحفظ لأوطاننا والسلامة لأنظمتنا القانونية والقضائية؟؟؟!!!