هل القانون المصري مستمد حقاً من القانون الفرنسي؟

بقلم : الدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

مقدمة
من الشائع والمتداول بكثرة على ألسنة العامة أن القانون المصري مستمد من القانون الفرنسي. بل إن بعض رجال الدين المحسوبين على جماعات الإسلام السياسي يرددون دائماً إحدى العبارات، ناعتين بها القانون المصري بأنه «قانون فرنسي» أو على حد قولهم «القانون الفرنساوي»، قاصدين من ذلك هدم القناعة لدى المخاطبين بالقواعد القانونية الوطنية بالأساس الفلسفي والأخلاقي لها، وإيهامهم بأن أحكام القانون المصري لا تراعي أحكام الشرع الإسلامي. وقد ساعد على ذلك أن العديد من فقهاء القانون يشيرون دائماً إلى القانون الفرنسي باعتباره المصدر التاريخي للقانون المصري، ناسين ومتجاهلين اتصال الحلقات فيما يتعلق بأصل القانون الفرنسي ذاته، ومتجاهلين كذلك أن «القانون هو مرآة الواقع»، وليس مقبولاً ولا مستساغاً بالتالي أن يتم اقتباس نصوص قانونية تناسب المجتمع الفرنسي لتطبيقها بشكل آلي أو بشكل كامل على مجتمع مختلف تماماً عن المجتمع الفرنسي، سواء في الدين أو اللغة أو الثقافة أو الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

ونعتقد أن جماعات الإسلام السياسي في سعيها إلى إهالة التراب على التشريعات الوطنية، تحقيقاً لأهداف قصيرة النظر، قد غاب عنها أن القانون المدني الفرنسي نفسه مأخوذ من الفقه المالكي، ولم يتسع نطاق علمهم أو إدراكهم واهتمامهم إلى المقولات التي يروجها بعض المستشرقين بادعائهم أن القواعد التنظيمية الدنيوية في الشريعة الإسلامية مستقاة من القانون الروماني القديم. ومن ثم، ومن خلال ترديدهم عبارة «القانون الفرنساوي» نعتاً للقانون المصري إنما يخدمون بشكل غير مباشر مزاعم المستشرقين بأن الشريعة الإسلامية مستقاة من القانون الروماني القديم. وقد أحسن أستاذنا الدكتور صوفي حسن أبو طالب بالرد على مزاعم المستشرقين في هذا الشأن، موضحاً القول الفصل بشأن العلاقة بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني، وذلك في كتابه القيم الذي يحمل عنواناً له «بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني»، والذي ظهر إلى النور لأول مرة في العام 1959م.

وعلى كل حال، وبغض النظر عن النوايا التي تقف وراء العبارات التي يرددها البعض عن أصل القانون المدني المصري وغيره من التشريعات الوطنية في الدول العربية، وحتى يكون الرد على هذه المزاعم شاملاً ووافياً، نرى من الملائم أن ينصب الرد على خمسة محاور، كما يلي:
المحور الأول: أصالة القانون المدني المصري.
المحور الثاني: العلاقة بين القانون المدني الفرنسي والقانون الفرعوني.
المحور الثالث: العلاقة بين القانون المدني الفرنسي والفقه المالكي.
المحور الرابع: العلاقة بين القانون الوطني والقانون المقارن.
المحور الخامس: السياسة التشريعية الوطنية في عصر العولمة.

المحور الأول
أصالة القانون المدني المصري

للتأكيد على أصالة القانون المدني المصري، لا نجد أفضل من عبارات الفقيه القانوني الكبير الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري، منظوراً إليه باعتباره الأب الروحي للقانون المدني المصري، والتي يؤكد من خلالها على أصالة واستقلالية هذا القانون وأصالة والهوية الوطنية للفقه القانوني والقضاء المصريين. بيان ذلك أنه، وأمام اللجنة التشريعية بمجلس النواب، وهي تنظر مشروع القانون المدني، أدلى الفقيه القانوني الكبير عبد الرزاق السنهوري برأيه في مشروع القانون، قائلاً إن «النصوص التشريعية الواردة في هذا المشروع لها من الكيان الذاتي ما يجعلها مستقلة كل الاستقلال عن المصادر التي أُخذت منها. ولم يكن الغرض من الرجوع إلى التقنينات الحديثة أن يتصل المشروع بهذه التقنينات المختلفة اتصال تبعية في التفسير والتطبيق والتطور، فإن هذا، حتى ولو كان ممكناً، لا يكون مرغوباً فيه، فمن المقطوع به أن كل نص تشريعي ينبغي أن يعيش في البيئة التي يطبق فيها، ويحيا حياة قومية توثق صلته بما يحيط به من ملابسات، وما يخضع له من مقتضيات، فينفصل انفصالاً تاماً عن المصدر التاريخي الذي أخذ منه، أياً كان هذا المصدر. وقد حان الوقت الذي يكون لمصر فيه قضاء ذاتي وفقه مستقل. ولكل من القضاء والفقه، بل على كل منهما، عند تطبيق النص أو تفسيره، أن يعتبر هذا النص قائماً بذاته، منفصلاً عن مصدره، فيطبقه أو يفسره تبعاً لما تقتضيه المصلحة، ولما يتسع له التفسير من حلول تفي بحاجات البلد، وتساير مقتضيات العدالة. وبذلك تتطور هذه النصوص في صميم الحياة القومية، وتثبت ذاتيتها، ويتأكد استقلالها، ويتحقق ما قصد إليه واضعو المشروع من أن يكون لمصر قانون قومي، يستند إلى قضاء وفقه لهما من الطابع الذاتي ما يجعل أثرهما ملحوظاً في التطور العالمي للقانون».

المحور الثاني
العلاقة بين القانون المدني الفرنسي والقانون الفرعوني

في محاضراته عن مادة «تاريخ القانون المصري»، كان أستاذنا الدكتور فتحي المرصفاوي يذكر لنا تأثير المدونات القانونية المصرية، ولاسيما مدونة بوكخوريوس على التشريعات الأوربية، وبحيث ينتهي ويخلص إلى أن القانون الفرنسي الذي ينتشر على نطاق واسع أنه مصدر القانون المصري وغيره من التشريعات العربية إنما هو «بضاعتنا ردت إلينا».

وبياناً لذلك، يقول أستاذنا الدكتور أحمد فتحي سرور: «لقد انعكس تفاعل الحضارة المصرية القديمة مع الحضارتين اليونانية والرومانية على مسيرة النظم القانونية في ظل هذه الحضارات. ففي الحضارة المصرية القديمة كان القانون الفرعوني أقدم قانون معروف في تاريخ البشرية، وهو يدل – رغم قدمه على مدى التقدم الحضاري الذي كان يعيشه المجتمع المصري. وقد استمر هذا القانون زمناً يقرب من ثلاثين قرناً. ورغم فتح الإسكندر الأكبر لمصر في عام 332 ق. م وضمها إلى إمبراطورتيه، إلا أن القانون المصري ظل مطبقاً على المصريين. وظهر بجانبه قانون جديد هو القانون الإغريقي الذي طبق على المواطنين الإغريقيين الذين استوطنوا مصر. ونتج عن تطبيق القانونين معاً في بلد واحد حدوث تفاعل بينهما أدى إلى ظهور قانون مشترك بين المصريين والإغريق اصطلح على تسميته بالقانون المصري الإغريقي. وحينما ضم الرومان مصر إلى إمبراطورتيهم عام 31 ق. م ظهر القانون الروماني في مصر. وقد طبق هذا القانون على الرومان وحدهم، وبقي القانون المصري – الإغريقي مطبقاً على المصريين والإغريق. وقد تأثر القانون الروماني بالقانون المصري الإغريقي مما أدى إلى ظهور قانون مختلط اصطلح على تسميته باسم القانون المصري – الروماني. وقد أخذ القانون الروماني الذي قنن في عهد جستنيان بكثير من أحكام هذا القانون… هذا وقد كانت مجموعات جستنيان مصدراً رئيسياً من مصادر القانون الفرنسي الذي نقل عنه المشرع المصري في القرن الماضي، ولما استرد المشرع المصري سيادته استطاع التوفيق بين طابعه القومي وبين التمشي مع أحدث الاتجاهات القانونية العالمية، فكان كل من القانونين الفرنسي والإيطالي أحد مصادره غير المباشرة. وحافظ التشريع المصري على ذاتيته الثقافية حين استمد بعض مبادئه من النظريات العامة في الشريعة الإسلامية. ويعكس هذا التطور القانوني مسيرة التقاء مختلف الحضارات والتي انعكست في حركة التشريع في عدد كبير من بلدان العالم. ولا شك أن التقاء الحضارات في عالم القانون يكشف عن القيم الأساسية التي تعتنقها كل حضارة والتي يعمل القانون على حمايتها. ولهذا فإن الحوار بين الحضارات لا يجوز أن ينظر إليه بوصفه عملية سياسية بقدر ما يتعين النظر إليه بوصفه مجالاً لاستجلاء القيم المشتركة التي تقوم عليها الحضارات المختلفة والتي تتفق على حمايتها مختلف النظم القانونية مهما تغيرت أساليب هذه الحماية» (د. أحمد فتحي سرور، العالم الجديد بين الاقتصاد والسياسة والقانون، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، 2005م، ص 513 وما بعدها).

المحور الثالث
العلاقة بين القانون المدني الفرنسي والفقه المالكي

إذا كان الفقيه القانوني الكبير عبد الرزاق السنهوري ينفي عن القانون المدني المصري صفة الاقتباس من القانون المدني الفرنسي، فإن بعض الفقهاء قد ذهبوا أبعد من ذلك، مؤكدين أن القانون المدني الفرنسي ذاته مقتبس من المذهب المالكي. ففي كتابه «حضارة العرب»، يقول المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون إن نابليون بونابرت عند عودته إلى بلاده فرنسا راجعاً من مصر سنة 1801م، أخذ معه كتاب فقهي من مذهب الإمام مالك بن أنس اسمه «شرح الدردير على متن خليل»، حيث إن نابليون كان جنرالاً خريج جامعة سانسير العسكرية ولا يفهم كثيراً في القانون، ولكنه كان لابد له من قانون موحد لامبراطوريته، لذا بنى على هذا الكتاب المالكي القانون الفرنسي الذي كان أحد أهم أسباب نهضة أوروبا، خاصة في مادة الأحكام والعقود والالتزامات، ومن هذا القانون استمد الاوروبيين قوانينهم، وعاد للمسلمين بشكل مشوه بعدما تلاعبت به أهواء وآراء فلاسفة الغرب ونسبوه ظلماً وزوراً للقانون الروماني القديم.

وقد أكد بعض الفقهاء، أنه، وبنظرة قانونية فاحصة، يتبين بجلاء اتفاق ما يربو على خمسة وسبعين بالمائة من التشريعات الفرنسية مع ما يقابلها من مذهب الإمام مالك. وبالطبع ليس هذا من قبيل المصادفة. ففي مؤلفه تحت عنوان «المقارنات التشريعية.. تطبيق القانون المدني والجنائي على مذهب الامام مالك»، سلك فضيلة الشيخ مخلوف المنياوي (1277م – 1135ھ) طريق المقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون المدني الفرنسي، مدفوعاً في ذلك بالظروف السائدة في ذلك الوقت، وهي رغبة الخديوي إسماعيل في التعرف على العلاقة بين الفقه الإسلامي والقوانين الأوربية، والضغوط الغربية في تغيير الأوضاع التشريعية السائدة في البلاد. وهذا المؤلف غير مسبوق في مسلكه ومنهجه المقارن بين الفقه الإسلامي والقانون المدني الفرنسي. وتتمثل عناصر هذا المنهج في رصد أوجه التشابه والتماثل بين الأحكام الشرعية المتضمنة في المنهج المالكي وبين أحكام القانون المدني الفرنسي، ولا يلتزم المؤلف باتباع إمام مذهبه الذي ينتسب له، وهو المذهب المالكي، ويستشهد على هذا بما حكى من قول العلماء، وفي ذلك إشارة إلى أنه يجوز مخالفة مذهب الإمام بالتخير من المذاهب والآراء الفقهية المختلفة ما يحقق المصالح ويمنع المفاسد، ويتناول الكتاب أيضاً عدم لزوم التقليد وإباحة الاجتهاد لولي الأمر وإلزامه قضاته بالأحكام التي تستأصل الشر وتمنعه، وتحض على الخير وتيسره، ويشير بذلك إلى أقوال الفقهاء بشأن العقوبات المغلظة، ويعبر الكتاب عن دور بالغ الحيوية في إثراء التفكير الفقهي وتطويره بما يحقق المصالح الاجتماعية، بل وفي تعريف الغرب بثراء هذا التفكير وإنسانيته واشتماله على المبادئ اللازمة لبناء أي مجتمع متحضر (راجع: محمد حسنين بن محمد مخلوف العدوي المشهور بمخلوف المنياوي، المقارنات التشريعية.. تطبيق القانون المدني والجنائي على مذهب الامام مالك، تحقیق أ. د محمد أحمد سراج و أ. د علي جمعة محمد، الناشر دار السلام، القاهرة، الطبعة الأولى، 1420ه – 1999م).

المحور الرابع
العلاقة بين القانون الوطني والقانون المقارن

بوجه عام، وحتى لا يكون حديثنا قاصراً على القانون المدني، ولتحديد العلاقة بين الأنا والآخر، أي بين القانون الوطني والقوانين والتشريعات الأجنبية، وتأصيلاً للمسألة فيما يتعلق بسياسة التشريع الوطني، وللوقوف على السياسة التشريعية واجبة الاتباع، بما يكفل مراعاة ظروف المجتمعات الوطنية العربية ومتطلباتها، نرى من الملائم أن نورد رأي أحد كبار فقهاء القانون الذين مارسوا العمل التشريعي لفترة طويلة، وهو أستاذنا الدكتور أحمد فتحي سرور، متحدثاً عن «القانون والعولمة وحوار الحضارات»، قائلاً: «إن حيوية النظام القانوني واستمراره يتوقف على احتفاظ القيم الاجتماعية المقبولة بقوتها في دفع القانون وقيادته، وكلما تغيرت هذه القيم، يتغير القانون، سواء كان ذلك في إطار النظام القانوني الداخلي أو في نطاق النظام القانوني الدولي. ولهذا، فإنه يتعين على المؤسسات الأكاديمية أن تركز اهتمامها على استجلاء القيم الاجتماعية المقبولة التي نريد الدفاع عنها والتي يتعين على النظام القانوني أن يشملها بحمايته، ولا يمكن في هذا الشأن أن نتخذ نموذجاً ثقافياً لأحد المجتمعات لكي نستخلص قيمه المقبولة ونفرضها على سائر المجتمعات. وإنما يتعين احترام التنوع الثقافي للشعوب وخلق مجتمع عالمي جديد يراعى الخصوصيات الثقافي وأنماطها المختلفة. فالحصاد الحقيقي للتفاعل الحضاري يبدو في إقامة نظام قيمي عالمي يراعى التنوع بين الثقافات واحترام هوية كل منها. إن عالم اليوم هو حصيلة ما قدمه الإنسان للإنسان، ما قدمه كل شعب للشعوب الأخرى، من خلال تنوع الثقافات والحضارات. هذا التنوع يجب أن ندافع عنه، وأن نحافظ عليه، فهو مصدر الثراء المتبادل بين الشعوب وهو ضمان التقدم المتوازن داخل الحضارات، فالتجاوزات التي تقع داخل أي حضارة تصححها المبادئ والقيم التي تؤمن بها حضارات أخرى. وكل ذلك يفرض إقامة حوار حقيقي بين الحضارات والثقافات المختلفة، من أجل فهم ما الذي يجرى عولمته وبواسطة من ولصالح من؟ ولقد سبق أن أكدت في أكاديمية لينشاى بروما بتاريخ 29 من نوفمبر سنة 1999م أن الثقافة ليست سلعة، وخصوصية كل ثقافة يجب أن تعلو على أي اعتبار، ولا يجوز للعولمة أن تتحدث باسم الثقافة، بل إنها على العكس يجب أن تتيح التعبير عن الأصالة والخصوصية التي تتمتع بها كل ثقافة. وفى الاجتماع الذي نظمته هذه الأكاديمية بناء على دعوة مجلس النواب الإيطالي لبحث حوار الحضارات أننا نرفض ما يروج له البعض بشأن صراع الحضارات، لأن الحضارات نتاج للتاريخ، وهي من صنع الشعوب، والتاريخ ملك للإنسانية، وأكدت أن التفاهم الذي نعيش في ظله ليس ثمرة مفاوضات بيننا، وإنما هو ثمرة سلسلة من الحضارات المتعاقبة ولا بد أن نعمل على بناء نظام عالمي يقبل بالتعددية الثقافية والدينية والفكرية. هذا هو التحدي الحقيقي الذي يوجهنا في عالم القانون عندما نطور قوانيننا لكي تواجه الحاجات الجديدة للعولمة، وبما تتطلبه من تدويل للعلاقات الاقتصادية في ضوء نظام التجارة العالمي وما قد يصاحب ذلك من غزو ثقافي للدول ذات النفوذ الاقتصادي أو ذات السيطرة. ولا يقتصر الأمر على ذلك في عالم القانون، بل يمتد التحدي الذي صاحب العولمة إلى البحث عن النموذج القانوني للدولة، فلم يعد صالحاً نموذج الدولة المتدخلة في نظام اقتصادي يقوم على قانون السوق، الأمر الذي يثير عدة مشاكل في الدول النامية بسبب التزاماتها الدولية وفقاً للعولمة. وأيا كانت عناصر الأزمة في هذه الدول، فإنه من المتفق عليه أن دور الدولة لن يختفي في الاقتصاد في كافة الدول سواء كان ذلك لضمان حسن إدارة اقتصاد السوق، أو من أجل تحقيق التوازن داخل المجتمع. كما أنه بوجه عام يجب على الدولة أن تخلق مناخــاً مــواتياً لتنمية المشروعات، فهذه هي المشكلة في جميع البلاد النامية التي تهدف استراتيجيتها إلى جذب الاستثمارات الأجنبية. وأياً كان الأمر في شأن دور الدولة في الاقتصاد فإن نجاح هذا الدور يتوقف إلى حد كبير على القيم الثقافية في كل دولة. فلا يوجد نموذج قانوني موحد لهذا الدور، ولا يمكن نقل نموذج تطبقه دولة ما على دولة أخرى» (د. أحمد فتحي سرور، العالم الجديد بين الاقتصاد والسياسة والقانون، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، 2005م، ص 513 وما بعدها).

المحور الخامس
السياسة التشريعية الوطنية في عصر العولمة

في زمن العولمة، فإن الحفاظ على ذاتية التشريعات الوطنية ومراعاتها الظروف الوطنية لكل دولة هو التزام أصيل يقع على عاتق المشرعين الوطنيين. وقد أكد هذا المعنى الفقيه القانوني الكبير، أستاذنا الدكتور أحمد فتحي سرور، حيث تحدث عن «العولمة واستقلال السلطة التشريعية»، قائلاً: «ما من شك في أنه مع تسارع إيقاع العولمة، نهيب بالبرلمانات الوطنية أن تركز اهتمامها في مجال تناول كثير من القضايا على الصعيد الدولي، إذ أن الكثير من المشكلات التي تناقش في البرلمانات اليوم والحلول المقترحة لتسويتها إنما تتأثر بشكل متزايد بالأحداث والوقائع الجارية خارج حدود الدولة. علاوة على ذلك، تتجاوز السياسات المرتبطة بالتجارة حدود المجالات التي تغطيها السياسات الاجتماعية والاقتصادية، ولذا يتعين التأكيد على ضرورة قيام ممثلي الشعب المنتخبين بإجراء المداولات التي من شأنها أن تفضي إلى الإسهام في تطوير نظام التجارة متعدد الأطراف. وتجدر الإشارة إلى أهمية عقد المناقشات الدورية حول منظمة التجارة العالمية في البرلمانات الوطنية كوسيلة للتوصل إلى فهم أفضل لتأثير وانعكاسات نظام التجارة متعددة الأطراف على عملية التنمية وبما يسهم في زيادة الوعي العام بمدى الصلة بينها وبين سياسات التجارة الدولية. وعليه يجب التسليم بأن للبرلمانات ثلاثة أدوار مهمة تضطلع بها على الساحة الدولية: أولها: أن البرلمانيين هم ممثلو الشعب وتقع على عاتقهم مسئولية الدفاع عن مصالح شعوبهم. ثانيها: أن البرلمان هو يد التشريع للدولة والمسئول عن وضع القوانين التي تحكمها. ثالثها: أن البرلمان يمثل الجزء الأساسي في منظومة الديمقراطية فيما يتصل بالضوابط والتوازنات، ويناط به مهام مباشرة الرقابة على الحكومة وأجهزتها الحاكمة وضمان التزامها بالقوانين» (د. أحمد فتحي سرور، العالم الجديد بين الاقتصاد والسياسة والقانون، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، 2005م، ص 51 وما بعدها).

وتحت عنوان «القانون والعولمة وحوار الحضارات»، يؤكد أستاذنا الدكتور أحمد فتحي سرور: «نلاحظ أن حضارة القرن العشرين في عقديها الأخيرين قد اندفعت نحو العولمة من خلال تدفق الاتصالات وثورة المعلومات وتطور نظام التجارة الدولية وحرية انتقال الأشخاص والأموال عبر الحدود الوطنية. وقد خلقت هذه العولمة طلباً جديداً على القانون، تجلي بوجه خاص في القطاع الاقتصادي. كما أدت العولمة إلى إحداث تغيير في الحقائق العلمية والتكنولوجية، وأسهمت في شكل التغيرات السياسية والاجتماعية، مما أسفر عن ظهور حقائق اجتماعية تعكس قيماً جديدة، أثرت على مضمون القانون، سواء كان ذلك في نطاق النظام القانوني الداخلي أو النظام القانوني الدولي. وقد ظهر التأثير السلبي للعولمة على مبادئ القانون من خلال ما يؤدى إليه تطبيقها على كل من البلاد الغنية والبلاد الفقيرة، سواء بسواء، إلى الإخلال بمبدأ المساواة بسبب عدم تكافؤ الفرص المتاحة لكل البلاد. ويبدو هذا الإخلال في تطبيق النظام القانوني الذي تفرضه العولمة على دول تختلف مراكزها القانونية من حيث التنمية باختلاف درجات النمو فيها. فالمساواة لا تتحقق إلا بالاختلاف في المعاملة بين المختلفين. ولنتساءل هل تملك الدول النامية القدرة الإنتاجية والتكنولوجية والقدرة على التسويق التي تسمح لها بالمنافسة في مواجهة الدول الصناعية؟ إن عدم المساواة بين الظروف التي ينتج فيها الإنسان في كل دولة لا تتفق بلا شك مع وحدة القواعد التي تنظم جهوده. ولا شك في سوء العولمة إذا استهدفت تبعية الدول وإخضاع الشعوب إلى متطلبات الحصول على الربح، وإلى الهيمنة الاقتصادية للشركات متعددة الجنسية. لا شك في سوء العولمة التي تكرس عدم المساواة وتركز الثراء في أيدي مجموعة من الدول أو في أيدي مجموعة من الشركات إضراراً بالشعوب وتعميقاً للفقر والتهميش الاجتماعي.

وفي النظام القانوني الداخلي، لابد من التنبيه إلى ضرورة إحداث التوازن في الحماية بين مختلف الحقوق والحريات، الأمر الذي يتطلب التناسب بين حماية المصلحة الاقتصادية وحقوق الأفراد وحرياتهم، حتى يكون القانون أكثر عدلاً. وهو ما يتطلب من واضع التشريع والقائم على تطبيقه أن يجيد إقامة التوازن بين الهدف الاقتصادي للتشريع وبين سائر الأهداف الاجتماعية، للوصول إلى الحل الأكثر عدلاً. فما يعتبر في بعض الأحوال مخيباً للهدف الاقتصادي يمكن اعتباره محققًا للعدالة. وكما قال أرسطو والفقيه الروماني كلس: إن القانون هو فن العدل والخير. وتتحدد قيمة النظام القانوني في مدى ما يحققه من عدالة وأمن قانوني، لا فيما يحققه من إغراق قانوني، ويتمثل في كثرة القوانين الاقتصادية. كما أنه يجب ألا تسبق القيمة الاقتصادية المتوخاة ما يجب أن يتوافر في التشريع ابتداء من قيمة قانونية بالمعنى الذي حددناه، فهذه القيمة من شأنها أن تعطى للمنتج القانوني قيمة اقتصادية يشجع على الاستثمار والنمو الاقتصادي، الذي لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل إطار قانوني يحقق العدالة والأمن القانوني معًا. إن هذا الإطار القانوني هو الذي يسهم في إعطاء المستثمرين والمستهلكين على حد سواء الشعور بالاستقرار الحقيقي الذي يحتاج إليه أي استثمار طويل الأجل. وفي هذا الصدد فإننا نعارض أي عولمة لا تستهدف إلى غير إعلاء سيادة قانون السوق، ونطالب بتوحيد كل الجهود لكي نرى في نصوص القانون كل ما يؤكد احترام حقوق الإنسان، كل إنسان، واحترام كرامته، واحترام العدالة، واحترام خصوصية ثقافته وحضارته.

وقد لوحظ أن العولمة وما صاحبها من الاعتماد المتبادل بين الدول واهتزاز الحواجز التي تفصل بين سيادة كل دولة وأخرى، قد أسهم في صياغة قيم مشتركة سواء على المستوى الوطني أو على المستوى الدولي. فلم تعد حقوق الأفراد ومصالح المجتمع الوطني هي الشاغل الوحيد للقانون، بل أصبح من شواغله أيضًا مواجهة مصالح المجتمع الدولي وبحث مدى تأثير أعمال الأفراد عليها.

وزهاء ظهور أفكار ومبادئ جديدة تحت تأثير العولمة وانتقال القيم والأفكار من حضارة إلى أخرى تحت تأثير سرعة الانتقال وتقدم وسائل الاتصال، ظهرت الحاجة إلى صياغة قيم مشتركة، وصلت إلى حد العالمية، ومن بينها حماية حقوق الإنسان التي وصلت إلى المستوى الذي أزال الحواجز التقليدية بين القانون الداخلي والقانون الدولي بشأنها.

ومن تطبيقات احترام حقوق الإنسان في نظامنا الجنائي، مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، ومبدأ شخصية المسئولية الجنائية ومبدأ شخصية العقوبة، ومبدأ حماية استقلال القضاء وحياده، وقرينة البراءة والمحاكمة العادلة واحترام حقوق الدفاع.

كما آمن المجتمع الدولي بضرورة مواجهة زيادة الجرائم المنظمة العابرة للحدود، وجرائم الإرهاب الدولي وغيرها من الظواهر الإجرامية التي ضاعفت العولمة من وقوعها، على نحو يهدد الأمن في كل من المجتمع الوطني والدولي معا. وقد خلقت هذه التغييرات طلباً ملحاً على النظام الجنائي الدولي، يتمثل في تقنين التشريع الداخلي للجرائم الدولية وظهور النظام القضائي الجنائي الدولي، وامتداد اختصاص القضاء الوطني في بعض الدول إلى جرائم تقع خارج اقليمه. وهو ما يتطلب بالتبعية زيادة التعاون الدولي في مجال الجريمة. هكذا، تجاوزت العولمة نطاقها الاقتصادي لكي تمتد إلى النظام القانوني الجنائي الذي يضم الجرائم الدولية التي زادت في هذه الآونة الأخيرة، والذي يثير الحاجة إلى نظام عالمي جنائي يواجه هذه الظاهرة. نظام يؤكد القيم المشتركة التي يجب حمايتها جنائياً على المستوى الدولي. على أنه من ناحية أخرى نحذر من القيم التي تخلقها القوة المادية والسيطرة التي تتمتع بها بعض الدول الكبرى، فلا يجوز فرض هذه القيم على سائر المجتمعات، لأن القانون لا يجوز أن يحمى سوى القيم التي يحتاج إليها المجتمع أو يؤمن بها، لا تلك القيم الفوقية التي تفرضها قوة أو سلطة مسيطرة. لابد للقانون أن يعكس حقيقة الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والمالي السائد في المجتمع، لا أن يستورد واقعاً في بلد أجنبي وأن يترجم واقعاً يُملى عليه. فلا شك في سوء العولمة التي تكِّرس السيطرة الاقتصادية الثقافية لجزء من العالم على الجزء الآخر، أو توحِّد مدلول الأخلاق، أو تؤدى إلى التغريب الثقافي وفقًا لمرجعيات موحدة تعتمد على السيطرة والضغط.

ومن ناحية أخرى، فإننا نحتاج إلى القوة لحماية القانون وكفالة تنفيذه، فلا يجوز أن تتخذ السلطة مهما كانت طبيعتها سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو عسكرية، ستاراً لمخالفة الشرعية الدولية. أو تطبيقها بمعايير مزدوجة، أو تطبيقها بصورة انتقائية. كل ذلك يضعف قيمة العدالة ويهز الإيمان بقيم القانون، مما يفتح الطريق أمام الفوضى بسبب عدم الإيمان بعدالة القانون. إن القانون خلق للجميع، ومن أجل الجميع … فلا يجوز خلق قانون للأقوياء لتطبيقه على الضعفاء؛ فتلك هي بداية الانحلال في النظام القانوني بأسره» (د. أحمد فتحي سرور، العالم الجديد بين الاقتصاد والسياسة والقانون، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، 2005م، ص 514 وما بعدها).

وعلى هذا النحو، يبدو جلياً حجم التحديات التي هبت علينا بسبب العولمة، سواء من ناحية القيم التي يحميها القانون أو من زاوية الإطار القانوني الملائم لشكل هذه الحماية. ولا شك أن الأمل معقود على المؤسسات الأكاديمية ومراكز البحث القانوني لكي تضع دعائم الإطار القانوني الذي يصلح لمواجهة العولمة. وأحسب أن احترام حقوق الإنسان، واحترام الشرعية الدولية، والالتزام بتحقيق العدالة والأمن القانوني هي غايات مهمة يجب بلوغها حتى يكون للقانون دوراً فعالاً في أحداث التغيير المنظم والإسراع نحو التطور والتنمية في إطار من تكافؤ الفرص والمساواة.
بل هي دعائم مهمة، فنحن في حاجة إلى تحويل العولمة أداة للتنمية والرخاء للجميع، وأداة للمساواة والعدالة الاجتماعية.

خاتمة
تناولنا في هذه الدراسة إحدى صور حروب الجيل الخامس، ونقصد بها «التشكيك في أصالة القوانين الوطنية». وقد تبين لنا من خلال البحث مدى أهمية الموضوع. ولا نجد ختاماً لهذا الموضوع أفضل من عبارات الأديب والكاتب الكبير عباس محمود العقاد، حيث يقول إن الأفكار يندر أن تكون بنت يومها، وقلّ أن تخلو من تاريخ سالف تنتقل فيه كما ينتقل الكائن الحي في أدوار حياته (عباس محمود العقاد، مراجعات في الآداب والفنون، مؤسسة هنداوي، 2014م، كلمة في اسم الكتاب).

وإذا كان الغرب يريد أن يجعل بداية عصر التنوير الأوربي هي بداية التاريخ الإنساني، عامدين إلى إغفال كل دور للحضارات الأخرى، فلا يجوز لنا أن ننزلق معهم إلى التفكير ذاته، دون أن نتدبر خطورة هذا الأمر. ولنتساءل ماذا سوف يكون عـلـيـه عـالـم اليوم بدون مساهمة علماء الرياضة والفلك العرب، والفلاسفة الإغريق، والمعماريين والرسامين الإيطاليين؟ ماذا سوف يكون عليه عالم اليوم بدون مساهمة الحضارة الصينية، والإفريقية، والهندية، وحضارة جنوب أمريكا؟

وانطلاقاً من ذلك، وفيما يتعلق بالنظم القانونية، لا بد أن نؤكد على أن التغيير الذي يحدثه القانون يتأثر كل التأثير بتفاعل الحضارات التي انطلقت على أرضيتها مبادئ القانون. ومن الضروري أن نؤكد كذلك على أن التفاعل بين الحضارات المصرية القديمة واليونانية والرومانية كان له تأثير واضح على مبادئ القانون، وعلى القانون المدني الفرنسي ذاته.

زر الذهاب إلى الأعلى