هل التفت الإنسان إلى ذاته ؟!

هل التفت الإنسان إلى ذاته ؟!

نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 30/1/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

منذ أن وجدنا على هذه الأرض ـ يبدو أنه لم يكف بعضنا عن بعض نقدًا أو لومًا

أو عتابًا أو عقابًا بشأن وجه أو آخر من وجوه ذلك الاستغراق.. لكنه نقد موجه دائمًا إلى الغير.. لا يشمل قط نقد الناقد لذاته أو لمن هم في حكم ذاته.. ولذا بقى هذا النقد الذي لا ينقطع ـــ قليل الجدوى عديم الأثر !

لم نحاول حتى الآن صرف أو تركيز هذا النقد إلى ذواتنا.. لأننا نخشى أن نتعرى أمام أنفسنا أو في عيون الناس فتسقط قيمتنا ومهابتنا في نظر مجتمعنا.. وقد نخشاه ونتجنبه خوفًا على ما لا يزال معنا مما اغتنمناه أو نأمل في اغتنامه مما يستوجب ذلك النقد المر !!.. أو لأننا لم نعد نؤمن بالنقد ونرى أن حياة العاقل ليست إلا مهارة وشطارة بعيدة عن القيم التي نعتبر الاحتياج إليها سذاجة وغفلة !.. وهذا يأس نهائي من إنسانية الإنسان ومستقبل البشرية.. لم تعد الجماعات والأفراد يحسون بضياعه إحساسًا كاملاً !.. إذ يغلب الغيظ والتشاؤم والقلق وإساءة الظن والحقد وضيق الصدر مع عدم القدرة على الالتزام بالاتفاقات أو المبالاة بالتعهدات !

وقد جرى البشر مع عامة الأحياء على بدء كل شيء من البدايات إلى النهايات، ولم يتصوروا قط أن يكون البدء من النهايات انحداراً منها إلى البدايات ثم الانقلاب إلى العكس . لم يتصور البشر هذا التبادل المطرد مما حسبوه بداية إلى نهاية أخيرة رغم أن النهاية قد يعقبها عودة إلى بداية.. يحدث هذا دواليك في الكون العظيم حيث يسقط فيه دائما معنى الزمان والمكان الذي نتشبث به نحن الآدميين الفانين الذين لم نفهم بعد ما هي الأبدية والألوهية كما لم نفهم حقيقة دنيانا !

والجهل لا يفارق الأحياء في هزل أو جد.. ولولا الجهل ما عاش الأحياء على الأرض حتى الآن.. ولا غرو فإن كل حي كبر أو ضؤل يبدأ حياته من جهل شامل مطبق يتحسس طريقه ليتعرف على استعداداته فيها تدريجيًا.. يستمر حيًا إلى النهاية المكتوبة له.. واستعداداتنا أكثر مما لدى غيرنا من باقي ما نعرفه من الأحياء الأخرى.. فنحن برغم طفولتنا العارية البكماء ـ أوسع حيلة وأقوى إدراكًا وذكاءً وأشد تعقيدًا في الاختيارات والإرادات والملاذ والشهوات، وأبعد نظرًا فيما نحب ونكره ونريد ونرفض ونبني ونهدم ونصدق ونكذب، وأفسح مجالاً ونطاقًا في التصور والتطلع والأحلام والآمال وفي عكسها.. معنا ماضٍ وحاضر ومستقبل، ومعنا أيضًا مدًى لأعمار واحتمالات لحظوظ لا حد لحسنها أو سوئها ربما بقيت امتداداتها وآثارها بعد زوال صاحبها !

فأيا كان رصيد الآدمي من علم أو طبقة أو سن أو قوة بدنية أو عقلية أو ميل جارف أو متزن، فإن رصيده من هذا أو ذاك فيه جانب ضخم من الأوهام والمعتقدات والمنحيات والمقربات والطاردات والتعلق الذي لا يهدأ والأرواح والشياطين والقراءات والأدعية والكتابات والزيارات والنذور والأماكن والبقاع المباركة في محيطه وفي تصوره أو المؤثرة المجدية عنده لأغراضه .

وحين يفيق أي منا إذا أفاق إلى كمية هذا الوسط الجاهل وإلى آثاره في الصغير والكبير وغير المتعلم والمتعلم ـ تهوله صلابة ومرونة الحياة التي زود بها الأحياء بلا تفريق، كما يهوله بقاء البشر حتى الآن بأنواعهم وألوانهم يتبدلون ويتغيرون دون تمنع أو اعتراض . الكل يختلف ويأتلف باستمرار ـ حضرًا وريفًا غنى وفقرًا قوةً وضعفًا ذكورةً وأنوثة تحضرًا

وتأخرًا !

ولعل عدم التفات الإنسان إلى ذاته، وميله لعدم انتقاد نفسه، أحد الأسباب المؤثرة على ما نلاحظه من جوارٍ غريب هنا وهناك، ووجه الغرابة ليس فقط في تنافر المتجاورات، وإنما في عدم الالتفات إليها، والتنبه إلى عللها !

لا يركب الراكب سيارة أو قطارًا في بَر مصر، إلاّ ويلفته خليط عجيب، حاضر أحيانا في تجاور وربما في التصاق، بين فرط الترف وفرط الفاقة.. بين جمال وأناقة الجزيرة والمَنْزَل في الدقي القديم ما يكاد يكون مرمى حجر، وبين عشش الترجمان (سابقا) وقلب القاهرة ما يحسب بالأمتار، فإن قيض لك أن تنظر من نافذة القطار القادم من صعيد مصر، على مشارف الجيزة، رأيت على الجانبين علامات الفاقة والقذارة والعشوائية، فإذا رفعت نظرك قليلاً رأيت على الجانب الآخر من النيل العمارات الشاهقة والمباني والقصور الأنيقة، يكفيك أن تمر بمنيل شيحة لتجد القصور المنيفة إلى جوار العشش والمباني الطينية، وفي تجاور مدهش تجد العشوائيات تكاد تلاصق في كل مكان معالم الترف والتنعم !

لو ألتفت كلٌّ منا إلى ذاته، لراعى الآخرين، ولما حدث هذا التجاوز المؤسف الذي يؤرق كل ضمير حي يراعي ذوات الآخرين !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى