هل اتعظ العالم بما دار فيه من مذابح ؟!
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 11/12/2021
ـــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ: رجائى عطية
أحكامنا البشرية على الناس والأخلاق والأحداث ـ داخلة حتما فى تكوين أفكارنا ومعتقداتنا ، وداخلة أيضا فى تغيرها بتغير الأحوال والظروف والأزمنة والأمكنة .. وذلك التيار البشرى لا ينقطع قط دائم التقلّب والتغيّر .
ولن تفطن كتلة البشر إلى ذلك إلا إذا زاد التفاتها إلى الفهم والعقل والاتزان ، وأمكن بغير تكلف أو قهر أو ترويع ـ أن يجذب هذا الفهم أى عاقل بعقله .. هذا العقل الذى يشهد به سلوكه وعمله لدى أى آدمى آخر محتاج إلى مزيد من الفهم والتعقل فيرفعه إلى مستواه .. بلا معاناة ولا تسلط يوحى بالسلطة أو يستوجب الإذعان والتبعية .. هذه التبعية التى تقف مانعا دون نمو العقل وتعقله .. ومانعا لاستقلاله وحريته ولزومها لفهم كل ما هو هام وحقيقى فى الكون العظيم .
وما لم يتم لكتلة الناس ذلك الفهم ويسر الوصول إليه مع انفساح وانفتاح عقولهم باستمرار بلا ضغوط خارجية أو داخلية ـ سوف يبقى البشر على حالهم فريسة يلعب بها ذلك التيار الذى لا يهدأ .. وهو تيار ملىء بالخلافات والادعاءات والتصورات والمصدقات والاتهامات والخصومات والعداوات ـ التى تجعل البشر معرضين دائما للفتن والردة إلى الماضى المظلم .. فضلا عن نيران الحروب التى لم يعد أحد يأمن اندلاعاتها ، أو يثق أن تقف إذا بدأت عند حد معقول .. حد لا يستتبع دمارا شاملا يودى بالجنس البشرى أو يرده إلى بدائيته الأولى !
من المؤسف أن التقدم الباهر الذى نزهو به الآن ـ حافل بتلك المخاطر الهائلة التى لا نلتفت إلى وجودها التفات المتزن المتبصر المتحسب لها الفطن إلى أسبابها !
مشهد ما كابدته البشرية بالحربين العالميتين الماضيتين ، وما انفجر هنا وهناك من غزوات وحروب بين الكوريتين وفيتنام والهند الصينية والحروب الهندية الباكستانية والبوسنة والهرسك والحرب الإيرانية العراقية والغزو الأمريكى لأفغانستان ثم للعراق وغزوات إسرائيل بلبنان .. وجموحات تركيا وغيرها فى سوريا ، وفى ليبيا , مشهد هذه الحروب وغيرها يؤكد بفصوله ومآسيه المتلاحقة أن عقل الآدميين غائب ، وأن الهلكة غلبت عليهم مع غياب البصيرة والفهم ، وأن الهوة سحيقة بين مفرزات العلم وما أحدثته من حضارة ، وبين قصور الفهم الإنسانى وما فجره عماه الضرير من حروب سالت فيها الدماء ، وباتت بتواليها وغياب العقل عنها ـ خطرا منذرا بهلاك البشرية برمتها !
للأسف لا يشعر المراقب بأن الإنسانية اتعظت مما كابدته من خسائر فى الأرواح والأموال .
لم يقلع عالم الكبار عن فرض أجنداته ، بالقوة تارةً ، وبالحيلة وبازدواج المعايير تارات . توارى الفعل لا يعنى أنه غير حاصل ، والعبرة فى تلقى الدروس هى بوعى الدرس ، وليس بإخفاء الفعل الساعى للهيمنة على مصائر ومصالح الشعوب !
ينبغى للعاقل الرشيد أن ينتبه إلى تجزئة الآدميين وتخصيصهم تبعا لمجالات عقولهم واعتيادهم على الابتعاد بها عن دائرة العواطف والمشاعر التى لا يجوز فى معتقدهم إخضاعها لضوابط العقل وأحكامه . لأنها طليقة من التقيّد بالمعقول وغير المعقول .. وتلك نظرة قديمة بالغة القدم .. صارت لدى البشر جزءا من معتقدهم وإيمانهم بالغيب .. هذا من جراء قلة إدراكهم للإمكانات التى زود بها الخالق جل شأنه وميز عقل الآدمى .. وكذا من جراء وقوفهم عند عتبة العواطف والمشاعر مكتفين بهذه التسمية العامة الخالية من الدلالة على الإحاطة والفهم والإمعان فيهما، ودون الالتفات والمراقبة والرصد للظواهر والربط بينها وبين عمل الأعصاب ومراكز المخ ووظائف الغدد والأجهزة وعمل الأجهزة ونشاط المخ والذاكرة والمخيلة وسلطان ذلك كله على أفعال وردود أفعال الآدمى الذى عرف العقل وعناصره ودقة تركيبها فعرف خطوات عملها ـ شعوريا وعاطفيا أو عقليا وفكريا .
فلم تعد العواطف والمشاعر فى نظر العلم والمعارف الوضعية غيبا أو جزءا من الغيب ، وإن ظلت أغلبية البشر الغالبة تجهل ذلك متمسكة بقديمها لا تفارقه .. ولكن سيأتى اليوم الذى تمتد فيه المعرفة الوضعية والعقل والتعقل إلى تلك الأغلبية .. فتبسط نعمة العقل نورها على داخل الآدمى كله ـ وعلى خارجه ـ إن شاء خالقنا جل وعلا ذلك بفضله وكرمه .