هل أنصفنا الناس في حياتهم ؟!

نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 4/12/2021

 ـــــــ

بقلم: الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين

 

من وقت لآخر يغيب الموت أحد أعلامنا , وإذا بالأقلام التى سكتت عنه دهرًا , تنبرى للكتابة عنه , وذكر مآثره ومزاياه , مع أنها بالأمس قد تجاهلته تجاهلاً يكاد يكون عمديًا , هذا إذا لم تغمز أو تتجنى عليه .

ظنى أن معظم هذه الكتابات التعويضية إقرارٌ بالذنب والتقصير فى حق الراحل الذى لا يختلف أحد حول تميزه وموهبته وقدراته ، فلم يكن هذا الراحل أو ذاك ــ لم يكن مجهولاً حتى لا تتذكره الأقلام إلاّ فجأة بعد رحيله عـن الدنيا ، فذات هذه الأقلام ، ومنها أصحاب مواقع مؤثرة ، تعرف له قدره الذى ظل مطوياً لا يظهر ولا يُبْدى ولا يُنصف إلى أن مات ! فلماذا لا ننصف الناس أحياءً ، ولماذا دائماً لا يأتى إنصاف الناس إلاّ بعد موتهم ؟!

ترى كم شخص يحس الآن ـ فى هذه اللحظة ـ بجحود أو نسيان الناس له ؟! ما هو إحساس الوالدين حينما لا يتلقيان من الأبناء إلا الجحود أو إلقاء الفتات المادى أو المعنوى لهما من وقت لآخر أو فى المناسبات ؟! ما هى مشاعرهما وقدر ما يعانيانه من التعاسة حين يهملهما أولادهما ولا يعطونهما إلاّ ظهورهما ؟! ما هى مشاعر المعلم الذى ينكره تلاميذه ؟! ما هو إحساس الطبيب الذى بذل وداوى حين يجحده مريضه ؟! أو المحامى الذى أعطى من فكره وعلمه ما أقال به مظلوماً من ظالميه أو جبر عثرته ، فلا يلاقى إلاّ الجحود والإنكار ؟! لازلت أذكر أسى أستاذى الجليل محمد عبد الله محمد ، من مسلك طبيب كاتب ترافع عنه سبعة أيام كاملة ، شهدت فيها محكمة جنوب القاهرة مرافعة رائعة أقالت المتهم الكاتب الطبيب من تهمة الكفر والإلحاد ، فلما صادف محاميه هذا الرائع ، على متن رحلة إحدى الطائرات ، تجاهله كأنه لا يعرفه ! ذكر لىّ الأستاذ محمد عبد الله محمد هذه الواقعة بعد حصولها بسنوات لم تنجح فى إزالة ما يشعر به من مرارة ، يومها واسيته بأن حال الطبيب الكاتب المذكور شبيهة بالمريض النفسى الذى ينكر ـ باللاوعى ـ طبيبه الذى عالجه لأنه يذكره بحالته المرضية التى كانت ويريد أن يهرب من ذكراها .. من العجيب اللافت أن الطبيب الكاتب عاد بعد سنوات طويلة ، فى برنامج تليفزيونى بُث بعد رحيل الأستاذ محمد عبد الله محمد ، ليذكر للمتلقين عبقريته واقتداره ومآثره عليه حين أنقذه دفاعه المتميز الرائع من تهمة الإلحاد على هامش كتابه الذى كان قد أصدره وهو فى أول الطريق ! كان محمد عبد الله محمد قد مات وفارق الدنيا حين تذكره الكاتب الطبيب وأثنى عليه ، بعد أن كان قد أنكره فى حياته !

وترى ما الذى جعل عبقرية مثل الدكتور جمال حمدان تنطوى منغلقة على نفسها ، وتخاصم الدنيا حتى لاقت حتفها وحيدة بالسكن الذى تحول إلى سجن انفرادى اختيارى .. فى حريق مأساوى عبثى ، ولكنه يستحضر ما درجنا عليه من جحود وإنكار الأحياء ، لا نذكرهم إلاّ بعد وفاتهم من باب إبراء الذمة وإراحة الضمير المتعب من الإحساس بالذنب والتقصير ؟!

الغريب اللافت ، أن المعطائين هم أكثر الناس معاناة من جحود وإنكار وقلة إخلاص وربما خيانات الناس ! هل ذلك لأن حجم وتواصل عطائهم يزيد ـ بالمقابلة ! ـ إحساسهم بهذا الجحود ؟! لا مراء فى أن المقابلة تزيد الإحساس بالمرارة ! ولكن المؤكد بغض النظر عن قدر هذا الإحساس المر ، أننا نحجب الوفاء عن مستحقيه إن لم نقابله بالإنكار والجحود ، وأن أفضل الفروض ، أننا اعتدنا أن نحجب العرفان ولا نتذكر الجديرين به إلاّ بعد أن يطويهم الموت !!

هل هى عقدة الذنب التى تدفع إلى هذا التدارك وانهمار الثناء وإبراز المزايا والمآثر بعد الرحيل ؟! هل هو الخوف من المنافسة التى تدفع أبناء الكار إلى تجاهل كفاءات الغير ؟!  هل هى آفة النسيان التى تأخذ الأحياء إلى مراكز وبؤر الاهتمام فتنطمر غيرها فى زوايا النسيان ويتراكم عليها التجاهل حتى ينساها الناس فعلاً ؟!

لا يعرف وحشة ومرارة النكران أو الصدود ، إلا من تميزوا وناضلوا وجاهدوا وأوفوا وأعطوا ، فلم يلاقوا إلاّ صدوداً أو إنكاراً أو ألاعيب صغار أو خيانة نفوس طويت على الغدر وانعدم لديها الوفاء . من آفاتنا الكبرى أننا لا ننتبه إلى قيمة من بيننا إلاّ بعد فوات الأوان !!!

 

زر الذهاب إلى الأعلى