هل أسقطت الكشوف نظرية دارون؟
هل أسقطت الكشوف نظرية دارون؟
نشر بجريدة الشروق الخميس 15 / 4 / 2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
دارون صاحب نظرية النشوء والتطور، والارتقاء وأصل الأنواع، عالم طبيعي إنجليزي ( 1809 ـ 1882 م )، درس الطب في أدنبره، ولكنه لم يجد ميلاً للعمل بالطب وبدأ يدرس العلوم في كيمبردج، وشغف بالتاريخ الطبيعي، وقام برحلة بحرية على الباخرة « بيجل » استغرقت خمس سنوات، وكانت بداية لأبحاثه في النشوء والتطور والارتقاء، ووضع كتابه: « أصل الأنواع».
كان لمذهب دارون أثر كبير في الميدان البيولويى، وفي الفلسفة وميادين المعرفة الأخرى، وأدت دراساته إلى التساؤل عن الاعتقاد في الخلق الخاص بكل نوع من الأنواع، وهي نظرية كانت موضع اعتقاد علماء عصره، فتقدم بالبيانات التي جمعها عن تطور الأشكال الحيّة جميعها من أصل واحد مشترك. وخلص إلى أن هناك كفاحًا من أجل البقاء بين أفراد النوع الواحد، وأكد وجود تغير فردى في داخل النوع، وأن الأفراد ذوي التغير الأكثر ملاءمة يكون لهم حظ أوفر للبقاء. وأن بعض هذه التغيرات ينتقل للخلف ويحتفظ بها في الأجيال التالية.. وهذا هو مبدأ الانتخاب الطبيعي، وهو أساس نظرية دارون في عملية التطور العضوي.. فنظرًا لعوامل بيئية مختلفة ـ ( الغذاء والماء والحرارة والضغط والناتج الحيواني والنباتي ) ـ نشأ وينشأ الكفاح من أجل البقاء، ويسفر هذا الكفاح دائمًا عن انتصار وبقاء الأقوى والأصلح للتكيف تكيفًا أفضل مع البيئة.. فيتكاثر الأفضل، وينقرض العاجز عن مواجهة ظروف البيئة.. وانتهي دارون إلى أن الفرد في تاريخه يعيد تاريخ تكوين الجماعات التي ينتمى إليها !
ومع الضجة التي أثارتها الداروينية، وتصاعد الإعجاب بها، فإنها تعرضت لنقد بعض علماء القرن الماضي، فأخذوا عليها عدم تفرقتها بين التغيير المكتسب الذي لا يورث، والصفات الجينية التي تورث.. لذلك أدخلت على النظرية تحويرات اقتضتها المعرفة الحديثة بأصول الوراثة !
ومن الاختصار المخل اختزال الداروينية في أن الإنسان أصـله قرد. المسألة الأهم من نفي هذا، هي ما تكشف عنه البحوث تباعًا عن هياكل عظمية بشرية ترجع إلى ملايين السنين، وتصطدم بقصة الخلق ومدته في بعض كتب الأديان التي يستفاد منها أن عمر البشرية بين سبعة وعشرة آلاف عام !
الاكتشاف الجديد أعاد فتح قضية قديمة، اجتهد فيها الدكتور عبد الصبور شاهين
ــ على ما أسلفنا ــ برأي عرضه في كتابه: « أبى آدم ».. توقف فيه عند استعمال القرآن المجيد لكلمة « بشر » وحالات ودلالات ومعانى استخدام الكلمة، ثم عرض لاستعمال القرآن لكلمة « الإنسان ».. والمواضع التي فيها ورد لفظ « البشر» والأخرى التي ورد فيها لفظ
« الإنسان ».. لينتهي باجتهاد يعرضه إلى أن «البشر » لفظ عام لكل مخلوق على الأرض يمشى منتصب القامة على قدمين، بينما « الإنسان » لفظ خاص بكل من كان من البشر مكلفًا بمعرفة الله وعبادته.. فكل إنسان بشر، وليس كـل بشر إنسانًا. وإنه لأمرٍ ما نرى القرآن لا يخاطب البشر وإنـما يخاطب الإنسان، ونجد التكليف الديني منوطًا بصفته
« الإنسانية ».. وأن الإنسان هو وحده المقصود بالتكليف الديني، وأنه إذا كان البشر بعامة هم طلائع الخليقة، ثم بادوا ودرست آثارهم، فإن آدم هو أبو الإنسان المكلف المجدول حوله قصة الخلق في كتب الأديان..
وكما أثارت نظرية دارون ضجة كبرى، أثار كتاب الدكتور عبد الصبور شاهين ضجة أكبر حتى تطرف البعض فعدوه من باب الكفر والإلحاد.. واعتدل البعض فطلبوا مراجعة بعض الصياغات، وليبقى الحوار دائمًا بين العلم والدين حول قصة الخليقة !.
وقد انتهت المسألة بقيام الدكتور شاهين بتعديل بعض العبارات والتعبيرات التي وردت بكتابه طبقًا لما أشار به مجمع البحوث الإسلامية، ليسدل الستار مؤقتًا على قضية التكفير
التي رفعت عليه ممن سبق أن رفعوا معه سلفًا ـ قضية التكفير ضد الدكتور نصر حامد أبو زيد !
سلسلة الخلق العظمى
سلسلة الخلق العظمى ـ مذهب يوازى مذهب التطور، ويتمشى معه في معظم الطريق، وصفوته أن الوجود درجات متفاوتة في الضعة والشرف، تبدأ من المادة الأولى التي
لا صورة لها وترتفع إلى مرتبة الوجود الإلهي الذي تمخض له العلم والخير.
وهذه السلسلة العظمى كاملة في انتظامها كل حلقة من حلقات الوجود، وكل قابلية من قابليات الصفات والأعراض، ولا تفرغ السلسلة العظمى من إحدى هذه الحلقات.
وطفق الأستاذ العقاد يستعرض آراء القائلين بهذا المذهب قديمًا وحديثًا، بدءًا برائده الأكبر أفلاطون الملقب بالحكيم الإلهي، شارحًا نظريته وفيثاغورث من بعده، وكيف أن العالم عند هؤلاء عالمان: عالم كبير هو الكون بكل ما اشتمل عليه، وعالم صغير يتمثل في الإنسان. وقد انتقل هذا المذهب من الهند واليونان إلى العرب، وكان لفلسفة أرسطو نصيب غير قليل الأثر فيه وفي توجيه عقول الأوربيين منذ القرون الوسطى إلى سلسلة الوجود العظمى، ودخل في هذا الرأي غير قليلين، منهم بعض المتصوفة المسلمين، وقد عاد البحث في مكان الإنسان بعد كشف « كوبرنيكوس » لدوران الأرض حول الشمس، وأن الشمس هي المركز لا الأرض، وتجددت المناقشة عن مركز الخليقة، وعن مكان الإنسان في هذا المركز.
واستعرض الأستاذ العقاد قصيدة نظمها الشاعر الإنجليزي « اسكندر بوب » ( 1688/1744)، بعنوان « مقالة عن الإنسان » تضمنت عناصر عن مكانة الإنسان في الكون، مبدية أن مكانه هو المكان الأوسط بين حلقات السلسلة العظمى للخلق، والتي إذا انكسرت إحداها وقع الخلل في سائرها.
* * *
وقد توقف البحث في سلسلة الخلق العظمى بعض التوقف بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، ثم تجدد النظر بين علماء الطبيعة والفلاسفة
والمفكرين ـ عن مركز الإنسان بين الكائنات المختلفة.
ويتوقف الأستاذ العقاد وقفة غير قصيرة ـ يطل فيها على الرأي في هذه السلسلة العظمى عند العرب الذين نقلوا أهم مصادرها إلى الأوروبيين، وعرفها العرب من مصادر شتى ولكنهم لم يجعلوها دستورًا عامًا يحيط بالموجودات ويقرر للإنسان مكانه على مذاهب القائلين بتلك السلسلة، لأن مكان الإنسان في آيات القرآن الكريم أغناهم عن نسبته إلى سلسلة الخلق.
ولكن عرفت لحكماء العرب أقوال في مواضع متفرقة من بحوث العلم أو الدين.. تشير إلى ترتيب السلسلة.. ومنها ترتيب آفاق الموجودات قبل مذهب التطور، ومنها الكلام على « النفس والروح والعقل ».
ويرى المتصوفة أن المعرفة معرفتان: معرفة لدنّية ومعرفة كسبية، ويقصدون باللدنّية ما يدركه الإنسان بالإلهام والاستشراق ويهتدى إليه برياضة النفس وقمع الجسد. وهي معرفة غير معرفة التعلم والدراسة والبرهان.
هذا ويعد مذهب الإمام الغزالي في حكمة الموجودات وحكمة خلق الإنسان بين خلائق السموات والأرضين، يعد أمثل ما يقال بتفسير أهل السنة في سلسلة الخلق العظمى على هدى القرآن الكريم.
الإنسان في علم الحيوان وفي علوم الأجناس البشرية
يعطف الأستاذ العقاد هنا على هذا المجال، ليبدي أن الإنسان من الفقاريات، ومن الأوائل بينها، وأنه يُختص من بين البشريات باسم يميزه هو اسم الإنس Hominidae كما تختص القردة على عمومها باسم النسانيس، فيفرقها الاسمان حيث يجمعهما اسم البشريات.
ويرى بعض علماء الأحياء ـ فيما يقول ـ أن اسم الإنسان يُطلق على الكائن الذي وُجدت بقية من جمجمته في حفائر « جاوه » وأُطلق عليه « دبوا ـ Dubois » لدلالة بقاياه على اعتدال قامته وامتيازه باتساع الدماغ على البشريات، ولكن الرأي الغالب اليوم ـ فيما يبدى ـ أن النوع الإنساني بمزاياه الباقية لليوم مخالف في الخصائص الإنسية لصاحب تلك الجمجمة، وأن هناك اختلافًا غير قليل بين أناسي الحفائر من هذا القبيل، وبين الإنسان الذي يُطلق عليه اليوم الحيوان الناطق أو العارف أو المميز.
وانتقل الأستاذ العقاد بعد ذلك إلى بيان خصائص النوع الإنساني في علم الحيوان كما أثبتتها الكتب العلمية التي بحثت مذهب التطور باللغة العربية، وما عنيت بإيراده من أوجه الاعتراض وأوجه الاختلاف بين الإنسان وغيره من البشريات من الوجهة التشريحية، وبعد بيان مستفيض، أورد أن علوم الإنسان ترجع إلى علم الحيوان لدراسة تواريخ البشر الاجتماعية كما ترجع إليه أحيانًا في دراسة تقدمهم الثقافي منذ وُجد الإنسان بخصائصه المعروفة للحيوان الناطق Homo Sapiens وقبل وجود هذا الإنسان في العصور السحيقة.
وعلينا أن نعترف أن المجال أو الحيز هنا ـ لا يتسع لمتابعة إبحار الأستاذ العقاد في هذه العوالم، ليختم بأن على العلم اليوم أن يتم الرصد بما يفتحه من وسائل النظر إلى الواقع المعلوم والغيب المجهول !