هدية كورونا لمصر
بقلم: مصطفى حمدي محمود جمعه
لقد ذاقت مصر مرارة الفقر الناتج عن عجز الدخل القومي وزيادة فوائد القروض، وزاد مغصها المراري حدة في محاولات إصلاح اقتصادي معيب يديره قليلوا الخبرة والتأهيل، وخاصةً أنهم انتهكوا سياسات التعويم للعملة بعد إحداث تضخم مكبوت بإصدار عملة بدون غطاء والدخول في مشروعات طويلة الأمد دون دراسات اقتصادية فنية مع الاعتماد على القروض الداخلية والدولية مما عصر بطون عامة أفراد الشعب. إن هذا السيناريو الاقتصادي كان نتاج فساد إداري ومالي مزمن عبر مسافة طويلة من الزمن دارت فيها عدد من الخطط الاقتصادية العقيمة طويلة الأمد والتي اعتمدت على سياسات الخصخصة، والتعويم، والضرائب، والإغراق والتي كانت سبباً في انفجار ثورة 25 يناير 2011 وما ترتب على ذلك من تأكل الاحتياطي النقدي في معالجة تشوهات النظام السياسي، والإداري، والمالي مع توقف عجلة الإنتاج المحلي الوضيع، وبالرغم من الدفع الشعبي للإصلاح إلا أنه تشوه باستغلال فئات تسعي للحكم والمنفعة الشخصية على حساب الشعب.
لقد تمخض عن الكر والفر والصراع السياسي نحو إصلاح معيب بمعيب إلى أن تم رضوخ النظام النقدي المصري لهيمنة صندوق النقد الدولي من أجل حفنة قرض متقطع التمويل؛ لينهار النقد المحلي إلى أكثر من 160% من قيمته الاقتصادية، ويفقد معها خصائصه الأساسية ويصبح عملات رديئة يتخلى عنها المصارف التي أجبرت العامة على قبولها بالإكراه الصرفي غير المبرر؛ لتستحوذ على العملات القائدة Currency Leader، وأن ذلك كان له عواوير ومثالب أودت بالحياة الاقتصادية لصناعات صغيرة، ومتوسطة مثل: صناعة النسيج، كما أفلست شركات في قطاعات عديدة؛ لتخرج من مضمار الإنتاج إلى الهلاك، وزيادة البطالة؛ ليزداد أعداد الهجرة للعمالة ذات الخبرة.
وقبل أن نتناول الجائحة العالمية لفيروس كورونا بما تميز بأنه سريع الانتشار والعدوى، والذي أثار الهلع الدولي لما له من قدرة تدميرية للجهاز التنفسي الذي يعتبر وحدة إدخال الأوكسجين لإنتاج الطاقة البشرية للإنسان الذي يعتبر العنصر الأساسي في عمليات الإنتاج بكافة صورها، لتبدأ دول العالم بمستهل فبراير سنة 2020 بالتوقف عن الإنتاج؛ لعجزها عن العلاج هذا الوباء، واتخاذها الوسائل السلبية بالتدابير الوقائية والاحترازية بالعزل الإنساني، والحجر الصحي للمصابين بالوباء لمنع انتشار العدوى بالمخالطة، ومن ثم توقف الإنسان عن نشاطه الإنتاجي؛ ليتحول لكائن استهلاكي يهدر طاقته في انتظار الأطباء والعلماء في كبح غرور هذا الوباء والتدرع منه.
لنتكلم عن شكل مقومات الاقتصاد المصري. نحن ندرك جيداً أن مصر من دول العالم الثالث، والمفروض أنها من الدول الأولى للرعاية طبقاً لاتفاقية الدولية “الجات” GATT، والتي تهدف إلى تحرير التجارة الدولية لغايات تبادل السلع والمنتجات، ونحن نعلم أن النصيب الأكبر في الأرباح الدولية هو نصيب الدولة الصناعية الكبرى، والتي تفرض قواعدها الاقتصادية على الدول النامية فريسة الاستغلال الاقتصادي بسبب ما فيها من فساد مثمر للفقر والجهل. بل أن التقدم التكنولوجي في العالم المتقدم الذي أفرز بديلاً للاقتصاد التقليدي يتمثل في الاقتصاد الرقمي الذي يعتمد على التجارة الإلكترونية قد جعل تبادل المعلومات مصدراً لكسب النقد الرقمي، وصارت قواعد الانترنت الاقتصادية لها قوة الإلزام والإجبار، فزادت الصعوبات الاقتصادية على مصر؛ لدخولها محيط الفجوة الرقمية؛ لتنتمي إلى المجتمعات غير الرقمية؛ لتُستنفذ قدراتها الإصلاحية للاقتصاد التقليدي بتسربات نقدية رقمية عبر المسرات الالكترونية وخاصةً مع افتقارها لحدود إقليمية رقمية تحتاج إلى تقنيات حديثة تنظم التغيرات التي لحقت الاقتصاد عبر العالم الافتراضي على فضاء الإنترنت.
ويجدر بنا الإشارة إلى أن هناك فرق كبير بين آليات الاقتصاد الرقمي والذي يرتكز على الاقتصاد المالي الذي يقوم على الائتمان، والأوراق المالية، وأسعار الفائدة، وترويق الديون بما يخلق من نقود وهمية كنقود الودائع وما يترتب على ذلك من تضخم وزيادة أسعار المنتجات، وبين الاقتصاد التقليدي الذي يرتكز على الاقتصاد الحقيقي أو الواقعي، وهو يقوم على الأنشطة البدائية والثروات الطبيعية.
لنقول إن مصر هبة النيل، حيث تمتع مصر بمقومات اقتصادية طبيعية حباها الله، والتي تعطيها الصدارة في ظل ظروف أزمة كورونا فمناخ مصر من حيث موقعها المداري بمدار السرطان جعل درجة الحرارة مثبطة نوعاً ما لانتشار الوباء، وهذا يمنح نسبة حماية للأيدي العاملة من هذا الوباء، كما أن مصر دولة زراعية حيث الإنتاج الزراعي والحيواني والذي يمد المجتمع بالمنتجات الأساسية، ونحن نعلم أن الإنتاج الزراعي لن يتأثر بالتدابير الوقائية الخاصة بمنع انتشار الوباء حيث الميكنة الزراعية التي تدار بمعرفة فرد خلاف المسافات الكبيرة بين الفلاحين في أعمالهم الزراعية البسيطة، ثم تأتي ثروات مصر من المواد الخام، والمعادن من المناجم، والجبال، والصحراء حيث تنتج مصر الذهب، والحديد، والمنجنيز، والفوسفات، والنفط، والغاز، فضلاً عن الرمال والأسمنت وغير ذلك، ولا ننسي أن مصر تتمتع بإنتاج الأعشاب البرية العلاجية كما تنمو في مصر شجر الزيتون، والنخل، والتين، وتتميز بإنتاج زيت الزيتون البكر، وأفضل أنواع التمر فضلاً عن أن بعض مناطق صحراء المنطقة الغربية تنتج القمح بمياه الأمطار، كما أن مصر لديها رصيد كبير من الأسماك في نهر النيل، والترع، والبحيرات، والبحرين الأبيض والأحمر.
ليس هذا فقط بل إن مصر قطعت شوطاً كبيراً في بعض الصناعة الأساسية، ويجدر بنا الإشارة أن الاقتصاد العسكري في وقت السلم بما له من فائض إنتاج وهو في أساسه وحدات إنتاجية معزولة مؤمنة من انتشار الوباء، والقوات المسلحة المصرية الباسلة قد استطاعت أن تؤمن للشعب المصري مصانع لإنتاج الحديد، والأسمنت، والرخام، وتمد القطاع الغذائي بالعديد من المنتجات الغذائية، وفي القطاع الكيميائي لديها مصانع لإنتاج المطهرات والمبيدات، والمخصبات، وفي المجال الدوائي تنتج الدواء، والأجهزة الطبية.
وسوف نتحدث الآن كيف تكون الكورونا هدية لمصر؟ لقد أدى انتشار وباء كورونا في الدولة ذات الهيمنة الدولية ونقصد على سبيل الخصوص أمريكا، والاتحاد الأوروبي إلى توقف الإنتاج لديهم، وبالتالي تصدع اقتصادياتهم وتحولهم إلى دول استهلاكية تعاني الفقر الإنتاجي، وخاصةً أنها دول ذات أيد عاملة غالية التكلفة والأجر نهيك من أنها تقوم على الاقتصادي المالي الذي يعتمد عن النقد الائتماني، والذي يتوقف سعره على آليات الطلب عليه للتسويات الدولية باعتبار أن الدولار، واليورو من عملات الأساس، ويجب أن نفرق بين الركود أو الكساد وبين توقف الإنتاج بسبب فيروس كورونا. فالأول يعتمد على زيادة الإنتاج عن الطلب بالسوق، أما الأخير فيقوم على زيادة الطلب على إنتاج معدوم والنتيجة هو زيادة أسعار السلع والمنتجات واللجوء إلى الاستيراد.
ومما تقدم، يتضح لنا أن مصر لن تتأثر كثيراً بسبب فيروس كورونا بل تستفيد من زيادة الطلب على فائض إنتاجها من المحاصيل الزراعية، والحيوانية، ومن إنتاجها لبعض الصناعات الحيوية، فالمنافسة الدولية تكاد تكون معدومة، وقد شهد العالم قيام مصر بتقديم مساعدات دولية لأمريكا بنقل العالقين من رعاياها بالطيران المصري، وتقديمها لمساعدات طبية للصين، ولإيطاليا، ولإنجلترا، كما أن توقف الإنتاج والذي سأطلق عليه “الركود الإنتاجي” سيترتب عليه انخفاض العملات القائدة، وبالتالي ارتفاع قيمة النقد المصري.
إن هذه الأوضاع تحتاج من مصر استغلال أمثل لإدارة خطتها الاقتصادية لتغير موقعها الاقتصادي على الخريطة الدولية، فمن المطالبات الأساسية لهذه الخطة:
1- التوعية المجتمعية لكبح انتشار الوباء وحصره.
2- الاهتمام وتحفيز القطاع الطبي للقيام بدوره في حماية نواة الإنتاج وهو الإنسان المصري.
3- استغلال انخفاض سعر النفط في عمل احتياطي واستبدال الاحتياطي الدولاري بالبترول.
4- تخفيض سعر الوقود وفقاً لانخفاض أسعار البترول لزيادة الإنتاج في الصناعات التي تعتمد على الطاقة وبالتالي انخفاض الأسعار وزيادة القوى الشرائية، وبالتالي تدوير عجلة الاقتصاد بزيادة الاستهلاك، ومن ثم الاحتياج إلى أيدي عاملة إضافية في ورديات إضافية، وما يترتب عليه انخفاض معدل البطالة.
5- التحرر من التدابير الاحترازية والانكماشية في المناطق التي لم يظهر فيها الوباء، واستغلالها كوحدات إنتاج بعمل معسكرات إنتاجية بواسطة المعدات المحمولة تحت إشراف القوات المسلحة.
6- الاعتماد على سياسة المقايضة بالآلات والمكينة ذات الفن الإنتاجي العالي مقابل المنتجات الغذائية والأساسية، كما أنه من الأحوط الحصول على النماذج الصناعية وهو يقال فيه استغلال الموقف.
7- ترشيد الإنفاق العسكري، واستغلال القدرات العسكرية في زيادة الإنتاج الزراعي، والحيواني وعمل معسكرات زراعية وحيوانية وصناعية.
8- التوسع من عمليات الصيد للأسماك، والصناعات القائمة عليها.
9- زيادة الإنتاج الدوائي بعمل ورديات عمل جديدة وزيادة الصادرات.
10- استغلال الأيدي العاملة المصرية الكثيفة في زيادة إنتاج الكامات، والكحول، والمطهرات، وأجهزة التنفس الصناعي وتصدير الفائض الإنتاجي.
11- زيادة إنتاج الذهب في ظل زيادة أسعاره بسبب زيادة الطلب عليه نتيجة تداعيات انتشار وباء كورونا وتوقع انهيار الدولار، واليورور.
وفي الختام نقول مصائب قوم عند قوم فوائد، وأن استغلال الموقف لا يعيب فكم استغلت دول ظروف مصر لتستفيد. فالنهب الاستعماري لخيرات مصر ليس بعيد فكم عانت مصر من الاحتلال البريطاني اللاحق على الفرنساوي التالي للعثماني، وأن الاقتصاد ما هو إلا إدارة لظروف العرض والطلب، وأن المشكلة الاقتصادية هي عدم إشباع الحاجات والدوافع الإنسانية ــ ونستطيع أن نقول أن فيروس كورونا قد عطل الترس الأساسي في تروس الإنتاج وهو الإنسان. فهل أمريكا إذا طلبت منها مصر علماءها كأيد عاملة لتطوير الإنتاج ستقبل ذلك؟ بالطبع لا ــ لأن الاقتصاد يعتمد على الظروف ألا إن الحرب البيولوجية والكيماوية هي تعطيل لعنصر النصر الأساسي في الحرب وهو الإنسان. إن مصر الكنانة غالية المكانة تاريخها عتيق تطرح خيرات من كل أرجائها، إذ قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس: ٨٧). اللهم إحفظ مصر فأنت خير الحافظين.