نفحات الخيال
نفحات الخيال
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 7/11/2020
بقلم: الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين
حماقة كبرى أن يستهين أي آدمي عاقل بوجود الخيــال ودوره الأساسي فـي حيــاة كل منا ، فأوقات الآدميين ليست إلاّ ميادين اصطلاحية لخيالهم بالنسبة لحياتهم ، يقيسون بها حركات الزمان في المكان كما تصوروها . والخيال هـو زاد ومَدد العقــل ، به يستحضر الماضي ويتصور الغيب ويستشرف المستقبل ، ويستخلـص قدرتـه على الإبداع .
إن فضائل الإنسان العظيمة ، كلها نبت لخيال الآدمي .. لولاه ما عرفها البشر .. ولولا هذا الخيال الذى جذب أفذاذًا فركبوا الصعب وكرسوا العمر وثابروا وقاوموا وصبروا ، ما عرف تاريخ البشر قيمة ومكانة وجدوى وكرامة الإخلاص والصدق والاستقامة والشجاعة والمثابرة والبطولة والوفاء والتضحية والإيمان . فالآدمي مركب بالغ الدقة والإحكام والإتقان .. من حصاد هذه « المزاوجة » والعلاقة الحميمة بيــن « البوصلـة » و « الزاد » كتبت هذه الصفحات ، مشدودًا معلقًا فيها بالمعنى الكلى ، واجـب الوجود ، وبالحياة والإنسان .
وخيالنا يشغل في وعينا منطقة حرة من القيود التي تتقيد بها منطقة الواقع .. فمنطقة الخيال لا تتقيد بالزمان والمكان على أي وجه لا أصالةً وعمومًا ولا فروعًا وتفصيـلات .. ولا تبالـى بالفوارق بين الممكن والمستحيل والحىّ والميت والوجود والعدم والصدق والكذب وما نسميه بالحـق أو البـاطل . ومن ثم كان خيالنا سوقا مفتوحة المنافـذ والأبواب لعواطفنا ، لا تفارقها الرغبات والأهواء والمطامع ، كما لا تفارقها الهموم والمخاوف والمخاطر .. وهذه وتلك على درجات تتفاوت باختلاف طبائع الأفراد وعاداتهم وبيئاتهم .
ولم ينقطع قط بين البشر وجود من يحاول تحويل ما في خياله إلى واقع مهما كلفه ذلك من جهود ومعاناة ، وما بين يدى البشر من الاستكشافات والاختراعات وتطويرها إلى الحد الذى وصلت إليه حتى الآن ـ هو في الغالب نتيجة إصرار وبجهد أفراد من الفئة التي تصر وتدأب على تحويل الخيال والتمني إلـى واقع .. معظمهم غير معروف ، وبعضهم قد يذكر التاريخ أو المؤلفات أسماءهم ، وتسمى بأسمائهم النواميس والمقاييس والمعادلات والنظريات وأحيانًا الأنهار والجزر والخلجان حتى القارات ..
والاستكشاف هو معرفة البشر عمومًا لشيء أو قوة أو طاقة أو علاقة أو ارتباط أو ناموس عام لم يعرفه البشر أو يتقرر لديهم من قبل ، وإن كان موجودًا أو يعتقد البشر وجوده منذ وجود العالم الخارجي .. فالاستكشاف هو معرفة واتضاح قدرة الآدميين على الاستفادة من هذا الكشف في توسيع آفاق حياتهم وقدراتها . أما الاختراع فهو دائمًا أمر بشرى صرف لا وجود له إلا بسبب وجود الآدمي وعقل الآدمي ولخدمة غرض أو أكثر مـن أغـراض الآدميين .. نفعيًّا كان أو مثاليًّا .. به يتم للآدمي ابتداع أشياء من تخيله لم تكن موجودة .. لأنها أشياء كانت موجودة في الطبيعة على صورة أو صور مغايرة .. فجميع الأدوات والوسائل والأجهزة التي يستعملها الآدمي بدائيًّا كان أو متمدينًا على اختلاف أشكالها وحظها من البساطة والتعقيد في حياته بدايةً ونهايةً ونومًا ويقظةً وجدًّا ولعبًا وسلمًا وحربًا منفردًا ومجتمعًا .. هذه الأدوات والوسائل والأجهزة مخترعات بشرية لا يمكن أن تخدم للنفـع أو الضـرر إلا آدميين .
ونحن نتوارث ما تعودناه من تلك المخترعات ، ونضيف إليها باستمرار ما يستجد من جديد ، بحيث صـارت تشكل في الواقع نوع وأسلوب وموضوع حياتنا الاجتماعية والفردية في نظرنا .
هذا العالم من الاستكشافات والاختراعات البشرية يملأ أيام وأعمار كل آدمي ، ويغص به وعيه ويملأ عقله وواقع عقله وخياله ، ويغذى ويستأسر عواطفه الطيبة والرديئة ، ويكوّن على الجملة حقيقة عالم الإنسان أو الغالبية الغالبة من عالمه !
فلا غرابة في أن يبقى الإنسان العادي إلى اليوم وإلى مستقبل ـ يقصر أو يطول ـ محصورًا في عالم الإنسان لا يفارقه ، ولا يكاد ينظر إلى الكون والعالم الخارجي إلاّ نظرة عابرة سطحية قــد تكون هامشية لا تعنيه كثيرًا ! .. إذ هو يدمج الكون والعالم الخارجي الهائل في عالم الإنسان الصغير المحدود بحدود وعيه وتصوراته واعتقاداته وعواطفه .. مفترضًا أن الكون كله جزء من عالمه وليس إلا جزءًا من عالمه يجرى عليه ما تخيله هو من حق أو صدق أو خلاف ذلك مما صح لديه في عالم الإنسان وحسب شرعة الآدميين وأعرافهم ومألوف عاداتهم في حياتهم ووفق زمانهم وأحوالهم وظروفهم !!