نعمة العقل (8)

من تراب الطريق (975)

نعمة العقل (8)

نشر بجريدة المال الخميس 12/11/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

نحن جميعًا الآن لا نكف عن بعثرة الحياة البشرية ـ متصورين أننا حافظون لها بكثرة ما نتداوله ونبيعه ونشتريه ونؤجره ونستأجره ونحفظه ونقتنيه وندخره ونراه ونقرؤه وننتقل إليه ونسهر عليه .. نتصور أننا بذلك نزيد على من سبقونا ـ فهمًا وخصوبةً وارتفاعًا .. وهذه أغلبها أضغاث أمانٍ وقتية سريعة الذهاب .. أسرع في زوالها ليحل محلها متطلعات لا تلبث هي الأخرى حتى تختفى ويحل محلها جديد يصبح متروكًا بعد قليل .. يحدث ذلك على الدوام حيث تتوالى بغير انقطاع نوبات الكساد والغلاء والأزمات والديون والشدائد .. يحترق بنارها أغلب الناس في كل جماعة بالبطالة التي تصيب أغلبهم في الأرزاق والأسر ، وينتهزها الخبثاء الذين لا تخلو منهم جماعة بمكرهم وطمعهم وجشعهم بغرض الكسب من المصائب والنكبات والمجاعات والأزمات !

فمع دوام إحساس البشرية بالخير والشر ، ومع توالى الزيادة والقحط ، والرخاء والضيق فى حياتهم ـ باتت السيطرة والسطوة تظهر وتختفى لتظهر ـ ولا تنعدم قط .. حيلتها الدائمة ضمن آلاف الحيل الأخرى .. استجلاب كثرة الناس وإخضاعها بشتى الأساليب لتقودها القلة وتستغلها نزولاً وانحدارًا إلى الهلاك أو ما يشبه الهلاك لهذه الكثرة أو تلك .. واليوم باتت فى كل مكان على الأرض تقريبًا ـ سيطرة وسطوة قلة تدعى القدرة والقوة ـ يقابلها شعب أو أغلبية شعب بلا أي ولاء حقيقي عاقل معقول ، بل بشك أو كره أو ضيق أو سخط أو مقت أو عداوة أو بخليط من ذلك كله .. وقد يتخذ شكل التمرد الظاهر العلني أو الثورة أو الحرب هنا أو هناك . ربما بات من المستحيل أن يستمر هذا استمراره السابق دون أن يتعرض البشر كله أو أغلبيته لهلاك لم يحدث لهم من قبل .. لسبيل لتجاوز ما صار الناس إليه ، إلاّ إذا انطلق واتسع دور المهديين المخلصين الأيقاظ ، وتركت الكثرة ما هي عليه من اعتزاز كل منهم بأنانيته مع شدة تعلقه بما عرفه أو اعتقد أنه عرفه من العلم ، وقاوم كل منهم حرصه على مكانته مما يعتقد أنه يعرفه وسعيه بمقامه أو بنفوذه إلى الإشادة به في المحافل والاعتزاز بمنحها المالية ، والانخراط في كبار الهيئات العلمية والحكومات وأكابر الشركات في وطنه وغير وطنه .. هذه الإشادات التي أدت بأنواعها المتزايدة خلال القرون الثلاثة الميلادية الأخيرة إلى زعامات ورئاسات وألقاب وانتصارات وانهزامات وتكرمات وانتفاعات وثروات ونكبات ثم زوال إلى زوال إلى أعماق النسيان ! .. حيث لا مجد ولا مال ولا نفوذ ، وحيث يحتمل من انفض عنه السامر ما لا يُحتمل ويقاسى ما لا قبل له به .. فيستعجل الخلاص مما لا بد من خلاصه منه كائنا ما كان ومن كان ـ اللهم إلاّ من عرفوا نعمة العقل ، وأنزلوه منزلته الواجبة في فهمهم ومعرفتهم وسلوكهم وأعمالهم ، ففازوا بما لا نفاد له ، وهو نعمة الإيمان والرضا والتسليم والفهم .

زر الذهاب إلى الأعلى