نعمة العقل (6)
من تراب الطريق (973)
نعمة العقل (6)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 10/11/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
قد لا نغالى إذا قلنا إن كل صور المغالاة بقايا همجية غير متفقة مع الإنسانية .. خبيثة العواقب في النهاية على أطرافها ونسلهم والمساير لهم !
ومعرفة البشر بالكون كانت ضيقة جدًّا في البداية .. سايرت أيامهم ولياليهم، ولم تجاوز حياة البشر على الأرض في تقديرهم ـ أربعة أو خمسة آلاف عام حتى آخر القرن السابع عشر .. ثم التفتت دراستهم إلى القديم والأقدم من اليابس والمائع وأعماقه وحاضره وسابقه وعلاقات الأرض بالشمس مع ما عرف إذ ذاك من كواكبها صغيرة وكبيرة .. ولم تكن صورة الكون في نظرهم إذ ذاك بهذا الحجم الكبير الهائل الذي أصبحنا نعرفه اليوم ، بين هوله وضآلة الأرض .. فنحن اليوم نجرى بعنفٍ شديد ملئ بالخرافات والحماقات والخلافات والزعامات والأنانيات ـ وراء عالم أدركنا متأخرين جدًّا جدًّا أنه عالم هائل هائل لا قبل لنا بمعرفة حجمه ولا مدة وجوده ، وأن أرضنا ليست إلا ذرة فيه لا نعرف بيقين متى وكيف وجدت ووجدت بها المخلوقات الحية باختلاف أجناسها وأنواعها اختلافًا لا أول له ولا آخر .. دائم التوقيت يوجد ويزول، ويزول ليوجد ما شاء الخالق جل وعلا .
ومعظم أهل الديانات لا يرون بوضوح شديد إلاَّ مواجهة بين السماء وبين الأرض، حيث الخير كله في السماء، واختلاط الشر بالخير والدنيا الغرورة في الأرض، والآخرة النقية في السماء .. ولذلك لم يتحرك أهل الديانات عن موقفهم الأول الرئيسي الأصلي إلى يومنا هذا .. فتركوا كل شيء إلى ماض انقضى يصر القائمون على استحالة زحزحة أي شيء عمّا كان في الزمن الأول .. ويعرف العالمون بالإسلام أن رسوله المصطفي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يجمد دعوته قط بل أشار إلى تجديد الدين .. لأنه دائمًا ديانة أجيال تالية متتالية بعده يعلمها منشئها عز وجل .. تتحرك باستمرار في أجيالها المختلفة باختلاف الأزمنة وتوالى تقدمها إن تقدمت وتأخرها الكلى إن تأخرت وتدهورت ـ تبعا لحياة الأحياء البشرية التي لا تثبت قط على زمن أو حال .. فكلاهما يرتبط حتمًا بتطور أو تأخر لا يتوقفان قط .. إذ يستحيل أن يطابق آدمي آدميا آخر تمام المطابقة في أي زمان أو مكان !
وإصرار أقطاب الأديان على حال الدين القديم بلا تغيير سديد رشيد ـ ما أمكن ذلك ـ خوفًا من تقلصه أو تفرقه .. أو تجنبًا للإشكالات والخلافات والتقديم والتأخير ، أو اكتفاء ببقاء كل شكل فيه على ما كان عليه من قبل مع تزيين وتوسيع واستحداث المعابد والمساجد هنا وهناك واجتذاب المترددين عليها في انشغال عن جوهر الدين، بالتراتيل والقرابين والبركات والنذور .. كل ذلك دون أي تحرٍّ صادق مخلص جاد لعمار القلوب بالإيمان .. إذ صار المهم اليوم هو مجرد التردد كي لا تخلو تلك الدار من المترددين عليها .. فالعبادة الحقيقية معدومة من زمن غير قصير إلاّ في نادر النادر .. ودور العبادة مع ذلك قد تمتلئ وتفرغ لتعود إلى تكرار الامتلاء والإفراغ بغير نهاية .. واعتاد الجمهور على محاكاة العبادة بقدر ما يستطيع في وقته الضئيل .. إذ التدين الحقيقي المخلص الجاد قد انقضى من أمد مديد، ولم يعد باقيًا إلاّ التعصب للدين الذي تنتسب إليه هذه الأمة أو تلك .. ربما لأنه بات جزءًا لا يتجزأ من وطنيتها كاسم وعلم من أسمائها وأعلامها فقط إصرارًا وإشهارًا لذات الجماعة والتعلق الدائم بها مع إلزام الغير برعاية ذلك واحترامه .. إكبارًا لمقام الجماعة وإبرازًا لضرورة الاعتداد بها، وليس إخلاصًا للخالق عز وجل واستسلامًا له وحده باطنًا وظاهرًا .