نعمة العقل (5)
من تراب الطريق (972)
نعمة العقل (5)
نشر بجريدة المال الاثنين 9/11/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
قريتنا اليوم من حيث العدد أكثر بكثير مما تسع الأرض من جهة القدرة لدى الجميع على كسب العيش اللائق الكافي المستقيم المناسب للإنسان .. وبات البشر لا يبالون بالتفرقة في الكسب بين الحق والباطل ، والسليم والغاش ، والحلال والحرام .. وساقهم عدم المبالاة بهذه الفروق ، إلى المزيد من التكالب بكل حيلة ووسيلة يجدها أو يصادفها الآدمي في طريقه .. يظنها قد تنفعه في تحقيق مراده من دنيا الجشع والأطماع التي يقبل معظم الخلق على الاغتراف منها أغنياء كانوا أو فقراء ، سرًّا أو علانيةً !. لكن تاريخ البشرية لا يسمح فيما يبدو للمتأمل بالرجوع إلى ماضٍ سابق شامل يكذب سيرة حياة كل آدمي منذ وجد حتى الآن .. إذ أغلبها الغالب ليس انخفاضًا بل ارتفاعًا وفهمًا لا غباءً ، ومعرفة لا جهلاً .. والخالق جل وعلا يزيد القابل للزيادة بما قد لا نعلمه نحن الغارقين الآن في مخاوفنا .. إذ كل منا يستحيل عليه أن يعرف إلاّ إجمالاً وعمومًا ملايين زملائه الأحياء مثله .. فآراؤنا وأحكامنا في كل زمان ومكان دائمًا أضيق أو أوسع مما نعرفه فعلاً .. ولذلك لا نكف قط في أي زمان عن التعثر والتخبط والوهم والمبالغات والخرافات ، ولا نفارق القليل أو الكثير من الأماني والمخاوف والسعة والضيق والرواج والكساد والأمن والاضطراب والسلام والحرب .. وخلال ذلك الذي لا يكف أو يهدأ تداولنا ونتداول وسنتداول ما عشنا وعاش من بعدنا ـ إن لم يتغير ما ألفناه ـ قليل الصحيح المفيد النافع وكثير الزائف الدائم الترديد في الأحاديث والأخبار والإذاعات والاجتماعات والمجالس والمؤتمرات .. تتشدق بها الألسن وتدخل في قلوب وعقول الخلق وتمتلئ بها الكتب والتآليف والنشرات والقرارات والاتفاقات والمعاهدات .. فالآدميون منذ خلقوا حتى الآن ، يعيشون حياة معظمها خيال ومجازفة ووهم تنتهى دائمًا إلى خيبة المسعى ، اللهم إلا في نادر النادر من إصرار دائم لا يتزعزع على الإخلاص في الإيمان، إخلاصاً لا يزعزعه مزعزع كائنًا من كان .. وكم توهم ويتوهم وسيتوهم الآدمي تحقيق أضغاث الأماني مدفوعًا بشهوته وخياله ومناه ـ بالمال أو القوة أو القدرة أو السلطة أو السيادة أو بهذه جميعًا ـ معطيًا ظهره للدين والقيم والأخلاق ، متعلقًا بكثير من التفاهات، معظمًا لها، مشيدًا بها ما راح وطاح وأخفته من الوجود الرياح ونسيته المطامع والمدامع معًا !
ولم يتطلع أي آدمي في أي وقت مضى إلى اليوم والغد ـ في علمه وحلمه ـ لأقرب وأكثر من مشتهيات حواسه وما يبدو له منها سائغًا وطيبًا وشهيًّا ينجرف إليها دون بحث أو فحص .. فثلاثة أرباع رغائبه إلى أن يفارق دنياه ، يدفعه إليها ميل غريزي عاطفي قلمًّا يمر عليه أو يستشار فيه عقله أو يستأذن رشده .. فهل يمكن للأغلبية الغالبة من البشر أن تقوى على مقاومة أو إضعاف هذا الميل الغريزي العاطفي ـ لتأخذ دورها الجاد الحاد في الفضاء الهائل ؟ .. هذا السؤال قد يبدو غريبا الآن ، لكنه إن زاد واطرد سعينا المثمر في الفضاء الواسع ، وانتشرت آثاره وفوائده في مجتمعاتنا، قد يتغير منا من لا يتغير الآن وما لا يتغير ، وتكبر في أنظارنا معالم عالمنا ومعها عاداتنا وقدراتنا .. وتتغير كيفية رؤيتنا وأحكامنا على الأشياء والأشخاص وموازين وطرائق أحكامنا على جهود إنسانيتنا والتفاتنا إليها .. وربما يشبه هذا الانتقال في قفزه الجاد الحاد إن حدث فعلاً زمنًا ومكانًا ـ انتقال بشريتنا من الهمجية إلى الحضارة القديمة في تاريخنا، وعندئذ يمكن إن أذن القدر أن يتخلص البشر نهائيًّا عامتهم وخاصتهم من بقايا الهمجية مع الأنانية الناشبة فينا !