نعمة العقل (4)
من تراب الطريق (971)
نعمة العقل (4)
نشر بجريدة المال الأحد 8/11/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
كل ما يصل إليه من حواسه وعواطفه وعقله وآماله ومخاوفه مرئية أو خفية .. قصيرة الآن أو طويلة في الماضي والحاضر والمستقبل .. بسيطة أو معقدة .. فردية أو جماعية .. على سطح الأرض أو في أعماقها أو فوقها أو في جوها أو في الفضاء الواسع .. حصاد ما يصل إليه الآدمي من هذا كله ما هو إلاّ تركيبات بشرية لدى البشر .. تتراءى فيها باستمرار تعرجات وتغيرات وتطورات الأجيال جيلاً وراء آخر .. فيها أعمال وجهود وأطماع ومكاسب وخسائر ومحاولات ، ومعها أحيانًا إبداعات وعجائب .. تتخللها حماقات ومخاوف ونكبات لا تفارق حياة الآدمي إلى يومنا هذا .. فلم ينجح البشر بعد ـ في إيجاد الوعى الدائم الاتزان داخليًّا وخارجيًّا لدى أغلبية الآدميين !
وتاريخنا لم يدون بطريقة أو أخـرى إلاَّ مـن قرابة خمسة أو أربعة آلاف سنة .. تجرى تقاسيمه بين التاريخ القديم والتاريخ المتوسط والتاريخ الحديث ..غير ما اصطلحنا على تسميته بعبارة « ما قبل التاريخ » ..
والحضارات لم يعرفها التاريخ البشرى بطريقة أو أخرى إلاَّ من خمسة أو أربعة آلاف عام .. على حين أنه تبين الآن أن وجود الحياة على هذه الأرض قد بدأ من نحو مليوني عام أخذًا بالمعلومات الأثرية العلمية التي يتداولها اليوم الآثاريون .. فالتاريخ الذي معنا بقضه وقضيضه قديمة ومتوسطه وحديثه ـ نهايات لا بدايات ـ تنبه إليها الآدميون فجأة بعد نوم عميق طال مئات الآلاف من السنين !
وربما كان ما يبدو لنا على هذه الأرض نهايات أخيرة لا مفر منها، ما هو إلاّ بدايات للبشر لكى ينتشروا من الأرض إلى الفضاء العريض الواسع جدًّا بكواكبه الهائلة والمتوسطة التي تتبع شمسنا مع هذه الأرض التي تبدو الآن غاصة بالأحياء حيوانًّا ونباتًّا لا تستقر على حال أو نظام !
وقد استقر واتضح الآن التفات الدول المتقدمة بالغ التكلفة إلى الفضاء الواسع برحلات منظمة دورية بمركبات خاصة شديدة الدقة في التركيب تؤدى وظائفها ذهابًا وعودة إلى الأرض بروادها المتخصصين .. ينظمها على الأرض هيئات ومعامل ومصانع فائقة الاقتدار .. واسعة الموارد موصولة العمل نهارًا وليلاً .. مأجورة بأجور سخية لم تُخرج أصحابها من مألوف الناس في معاشهم وحياتهم وعاداتهم ومعتقداتهم وبما في طبائعهم من الأنانيات والسطحيات!
ومنذ قرنين أو ثلاثة لم يعد هناك توقير لأماكن العبادة ، أو للمنفردين بعيدًا للتعبد والنسك إلى آخر أعمارهم .. إذ ضاقت دنيا الناس بجماعات النسك والرهبنة ، وقل جدًّا من يهتم بالمبتعدين والمعتزلين ، وتزايد الاستخفاف بالمتدينين لابتعاد أغلب الخلق عن الالتفات الجاد للدين والتدين .. وبات ذلك لا يراعى إلاّ ضمن احتفالات الأعياد والمواسم العامة ، وغطت وطغت دنيا البشر على حياتهم جادة في تقديرهم أو غير جادة .. حتى احتفالات المآتم .. تغلبت فيها الثروة والوجاهة السوقية .. فلم يعد الآدمي يخشى في عصرنا هذا قلة التدين أو إنكاره .. ولم يعد يوجد في القرون الميلادية الثلاثة الأخيرة خوف ديني أو رهبة روحية .. لأن دنيانا باتت ومازالت ـ عالمًا دنيويًا يتنازعه البشر أفرادًا وجماعات في كل جهة .. صغارًا وكبارًا وذكورًا وإناثًا ـ علماءً ومهرةً وأوساطًا وعامةً وسادةً ورعيةً .. وبات الكل يضيع عمره في الأنانية وفي التطاحن بلا حدٍ، فضاقت الأرض الآن على الناس إلى حد لم يسبق له مثيل من قبل .. وهو بلاء لم تستطع الحكومات إخفاءه .. كبيرها وصغيرها .. ولم تقدر بعد على إطفائه بما لديها ماديًا ومعنويًا .. كما لا يمكن أن تقوم به الشعوب التي فقدت القدرة المستمرة على التساند والتماسك ، واعتادت بعدهما على المنافسات والمقاومات والخلافات والخصومات والانقسامات والدسائس .. وهذه الشعوب بحاجة شديدة إلى تغيير ذلك تغييرًا جذريًا يمكن تحقيقه ـ بمقاومة فعالة جادة ومكثفة اقتصاديًا وعقلانيًا لمقاومة مغالاة وجشع الأنانية والطمع وميلهما أحيانًا غير قليلة إلى التدمير والتخريب الذي قد يجر أسوأ العواقب على الجنس البشرى كله ..