نعمة العقل (3)

من تراب الطريق (970)

نعمة العقل (3)

نشر بجريدة المال الخميس 5/11/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

من المحال ثبات التغذية نوعًا ومقدارًا طوال عمر الآدمي .. لأنه كائن حي دائم التغير الواضح في تكوينه المفروض عليه .. يخالف باقي الأحياء من ميلاده إلى أن ينتهى وجوده في الدنيا .. رضى أم أبى. لا يتوقف تغيره إبان عمره، في صحته ومرضه وصحوه ونومه وفى ظروفه جميعًا .. يجرى عليه ذلك بارزًا كان أو غير بارز،  ويستمر جريانه عليه إلى أن يرحل عن الدنيا !

فقد جاء كل آدمي، شأن كل المخلوقات من الحيوان والنبات ـ جاء بقدرة الله تعالى وخلقه له من العدم، لينتهي إلى رحيل محتوم عن دنياه .. في خلال رحلته فيها ـ تحفظه ” الأنا ” وتصاحبه وتقوده ما عاش على التزام هواها في الأغلب الأعم، وقد تنفعه إن فطنت إلى رشد العقل ! وكثير الكثير ما آذته وتؤذيه إلى اليوم بإصرارها على التزام أهوائها التزامًا ساد للآن كل مكان في الأرض ، وبات صعب العلاج مع تراجع الأخلاق التي أهملها التعليم ، وسيادة الطمع والأنانية ، وعشق وتصيد المال بالبهرجة والادعاء وانعدام المبالاة بالأمانة وفقدان الاهتمام بمصير البشرية الذى لاحت للعقلاء المخاطر المحدقة به واستبانت للعيون اليقظة !

ربما لم يعد هناك رجاء اليوم لا في كثرة التناسل ولا في ضبطه أو قلته .. لأنه خرج عن معناه ورسالته، ولم يعد جادًّا يتغيّا إقامة الأسر وحفظها من التمزق والعداء . لذلك ذوت وهانت القرابات في كل مكان !

وما أصاب التناسل ـ أصاب أيضًا الصداقة والزمالة . نسى الناس المعاني الجادة التي كانت لهذه الاصطلاحات،  وضمرت قيمتها التي كانت في الماضي، وضاع مع سيادة الماديات وغروب العقل ـ ضاعت الوشائج المعنوية،  وانسحقت النفوس أمام السرعة التي غمرتها ومعها العقول التي تخدمها،  ووهنت العلاقات الإنسانية بداخل الأسر بعامة،  وطالت فيما طالت العلاقة بين الزوج وزوجه، فضمر أو تلاشى معنى السكن والعشرة، وانعكس هذا الوهن على علاقات الأبناء بالآباء والأمهات، وهانت مع أفول العقل والوشيجة ـ معانى الأمومة والأبوة، وأخذ عقد الأسرة الإنسانية ينفرط إزاء زحف المال والماديات،  وتوارى أو انسحاب دور العقل !

*     *      *

الاعتياد البشرى ليس ثباتًا كما تصوره ويتصوره أكثرنا .. وإنما هو تصوير لتأن وترتيب مستمر .. قد يميل وقد يستقيم .. يميل إلى الاسترخاء ويبالغ فيه، وإلى الشدة ويتمسك بها مخافة الضياع .. ويستقيم لكى يتقدم النوع منتقلا إلى طور للآدمي مخالف لسابقه مخالفة تكون تارة غامضة لدى أغلب الناس، وتارة مكتسحة في وضوحها لا تخفى إلاّ على العنيد الشاذ .. لأن الآدمي كائن حىّ أكثر من حياة الأحياء الأخرى التي تعيش على هذه الأرض .. لا يكف هنا وهناك عن التنقيب والحرص على الانتباه في هذا أو ذاك مما يراه .. ولأن الآدمي حتى الآن لم يشعر شعورًا حقيقيًّا بالكون إلاَّ نادرًا .. ولم يفهم حياته فهمًا حقيقيًّا إلاَّ نادرًا أيضًا .. فلم يعرف فى تقدمه وتطوره أنه في دنياه وقتي .. يعيش في وقتيات من تركيبة لا أول لها ولا آخر بخلاف الحيوان والنبات !

زر الذهاب إلى الأعلى