نعمة العقل (2)

من تراب الطريق (969)

نعمة العقل (2)

نشر بجريدة المال الأربعاء 4/11/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

في كل بقاع الأرض ، تجد المال بأشكاله وأنواعه عرضة للأخذ والعطاء ، ومحلاًّ للخيانة والأمانة ، والكذب والصدق .. يسود ذلك لدى عامة البشر الذين غلا أكثرهم في الاندفاع نحو المال والفوز به والإكثار منه والانكفاء عليه !

وكل الآدميين في كل زمان ومكان ، طالت حياة كل منهم أو قصرت ، لا ينسى ماضيه كل النسيان قط ! مرد  ذلك أن « الأنا » تصاحب كل آدمي من الميلاد إلى النهاية .. هي في صحبته من أولاه إلى أخراه ومعها ما يبقـى لديهـا مـن مشاهد وصور ومراءٍ وعادات وممارسات ، مهما تماحت أو بهتت ، فإنها لا تنطمر أو تحذف من صفحة الوعى والذاكرة كلية .. لذلك لا ينقطع الآدمي انقطاعًا تامًا عن هذه العادة أو تلك ، وتبقى معه لوازم منها مهما تطور وتغير .. ومهما زاد علمه ونمت معارفه وتغيرت أوضاعه !

والآدميون منذ ماضيهم البعيد ، وإلى اليوم ، تغلب السطحية والمجازفة والنصيب على أفرادهم وجماعاتهم .. يتعرضون بكثرة زادت في زماننا مرات ومرات ـ لمكابدة المكر والكذب والقوة والاستبداد . لذلك باءت كثير من أعمالهم وفوراتهم وثوراتهم بالفشل أو الإخفاق أو الخسران !

ما اعتاد كثير من الخلق تسميته « بالمعرفة » ، ليس إلاّ معرفة غامضة مبهمة قليلة النفع ، لذلك فإن تصرفاتنا عادة ليست نتيجة إدراك وحكمة . فالآدمي إلى اليوم ، لا يتحكم في السيطرة التامة الشاملة على ذاته وجسده وهواه ومخاوفه . دور العقل ثانوي في العادة لدى أغلب الخلق .. لا يزيد كثيرًا عن الاستسلام لأجهزة بنية الآدمي التي لا يقودها بل لا يعرفها حقيقة ولا يحيط إحاطة تامة أو فاهمة بتردداتها بين الموافقة والارتياح وبين العجز والتمرد والسخط  !

أقصى ما يمكن للآدمي أن يتمناه ، بما معنا الآن من العلوم والأخلاقيات ـ هو اكتشاف قوانين وعلاقات وإدراك حقائق في اتساق مع ما هو أفضل منها .. قد تتنبه إلى ذلك العقول لأنها ليست سببًا ـ وإنما عثورًا وانتظارًا للمقادير . إذ الإرادة البشرية ليست سببًا قط لإيجاد الأسس والنتائج ، وإنما التيقظ إليها وحسن الحظ في الوقوف عليها في تحرك القوى الطبيعية لمصادقة الموهوبين من البشر .

ويبدو أن البشر ، شأنهم شأن الأشياء والأحياء الأخرى في الكون .. هذه الأشياء نتائج ومركبات للجهد الطبيعي ، بيد أن جهود البشر تحصى مع إرادتهم الواعية . وهذه مجرد علاقة بجهدهم الممكن .. فإن كانت نتائجه سعيدة الحظ كان وعده مفرحًا .. لأن كل ما يوجد في حياة الآدمي عرضة للمقادير .. حتى الأفعال الإرادية .. هي مهما كان دور الإرادة فيها ، عرضة بشكل أو بآخر وبنسبة أو بأخرى للمقادير !

والآدمي كما يكون مليئًا بالقدرة ، يكون أيضًا مليئًا بالعجز .. هو في زمنه عرضة دائمًا لهذا وذاك .. لا يستقر قط على حال .. يتأرجح تارة بين انطلاق وعلو الأمل ، وتارة أخرى إلى بؤس وحيرة والتباس !

فطبيعة البشر لا تعرف الكمال ، وحاجاتهم تتحول دائمًا إلى رغبات ، والسماح والعفو لديهم والنسيان أقرب من الفهم الصحيح الذي لا يبالى معظم الناس بقيمته . لم تتمكن أغلبيتهم الغالبة جدًّا حتى الآن من الانتقال من الفهم السطحي الناقص ، إلى الفهم المتكامل الصحيح .. وذلك لانغماسها الشديد في العواطف والأهواء .. هذا الانغماس الذي لا يسمح

ولا يعطى فرصة حقيقية للهدوء والاعتدال والرزانة واحترام العقل والفطنة !

فالمتناقضات الدائمة في وعى وضمير الآدمي ـ طبيعة دائمة الحدوث بسبب ذلك الانغماس العاطفي الشديد .. يبدو الآدمي فيه ليس إلاّ قطعة من قطع الطبيعة الهائلة المتحركة .. يجتهد بدوام التحرك أن يبقى حيًّا وأن يحفظ لنفسه توازنها المدرك أنه لو استقر ما احتاج إلى تغذية ولا نمو ولا إحساس !

زر الذهاب إلى الأعلى