نطاق السريان الزماني للقواعد الجنائية في ظل حكم حديث لمحكمة النقض المصرية
بقلم: الأستاذ/ بدر عمران
تميزت القاعدة القانونية الجنائية بسمة مغايرة لسائر القواعد القانونية من حيث النطاق الزماني للتطبيق، فالقواعد الموضوعية منها قابلة للتطبيق والمطابقة بأثر رجعي بشروط فرضها القانون، وتلك السمة رغم بديهيتها ومنطقية مبرراتها لكون القاعدة القانونية الجنائية تتعلق في غالب الأحيان بحماية الحقوق والحريات ولكنها أيضًا راسخة في الدستور المصري والفقه الجنائي وكذلك احكام محكمة النقض المصرية.
والغاية النبيلة التي تتجلى في عدم معاقبة شخص إلا بعد المفاضلة بين النصين طالما لم يصدر حكم نهائي بات ضده جعلت القاعدة القانونية الجنائية متفردة عن غيرها من القواعد القانونية هي ذاتها التي دفعت الفقه والقضاء للتعامل مع القاعدة الجنائية بعد تقسيمها لثلاث طوائف.
والغاية من ذلك المقال هو القاء الضوء على الطبيعة الكاشفة والمنشأة لأحكام محكمة النقض فيما يتعلق بمبدأ (رجعية القاعدة الجنائية الموضوعية الاصلح للمتهم قبل صيرورة الحكم باتًا أو صدور الحكم البات) وما كشفت عنه محكمة النقض من حيث طبيعة تفسير المصطلح القانوني الوارد بقانون العقوبات و الغوص في قصد الشارع المنزه عن الخطأ بما يخالف مبدأ التفسير الضيق للقاعدة الجنائية و كذلك بلورة ما قد أنشأته محكمة النقض المصرية من قواعد سكت عنها القانون لفظيًا و لكن محكمتنا العليا استخلصتها بمنهج استنباطي لا يتعارض مع الدستور أو قانون العقوبات المصري.
وقد صدر حكم محكمة النقض المصرية في الطعن رقم 30411 لسنة 83 قضائية بجلسة 11 مارس 2020 متصديًا لعدة مبادئ قانونية ترسيخًا وتوضيحًا وهما:
أولًا: يمتد نطاق السريان الزماني للقواعد الجنائية الموضوعية بأثر رجعي تحقيقًا لمصلحة المتهم.
ثانيًا: مقولة “الحكم النهائي” الواردة بالفقرة الثانية من المادة الخامسة بقانون العقوبات يقصد بها “الحكم البات”.
ثالثًا: تحقق معنى التصالح لا يغير منه تنظيم إجراءات التصالح وفقًا لما جاء بالمادة 18 مكرر ب من قانون الإجراءات الجنائية.
رابعًا: انقضاء الدعوى الجنائية في الجريمة التي تُعد أساس للواقعة، ينصرف أثره إلى جميع اوصاف الدعوى المرتبطة بها.
بتاريخ 12 مارس 2015 نُشر بالجريدة الرسمية القرار بقانون رقم 16 لسنة 2015 و في المادة الثانية منه أضاف المادة 18 مكرر ب بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية و صار نافذًا من اليوم التالي لتاريخ نشره و في حكم محكمة النقض الصادر بجلسة 11 مارس 2020 في الطعن رقم 30411 لسنة 83 قضائية أمتد فيه نطاق السريان الزماني بأثر رجعي للقاعدة القانونية الجنائية المنصوص عليها في المادة 18 مكرر ب لقانون الإجراءات الجنائية، ليحقق الحكم مصلحة المتهم بموجب ذلك القانون في واقعة يعود تاريخها إلى الفترة من 11 ابريل 2006 حتى 20 أبريل 2006.
وقد أشار الحكم إلى أن الأساس القانوني لقاعدة نفاذ القانون بأثر رجعي على الوقائع التي ارتكبت قبل نفاذة، في حالة عدم صدور حكم بات بشأنها هو ما جاء بالفقرة الثانية من المادة الخامسة بقانون العقوبات ولما كان نص تلك الفقرة هو ” ومع هذا إذا صدر بعد وقوع الفعل وقبل الحكم فيه نهائيًا قانون أصلح للمتهم فهو الذي يتبع دون غيره.”
ورغم ما ورد بتلك الفقرة من مفردات محددة حول نهائية الحكم لم يرد بالنص القانوني كونها أحكامًا باتة، ولكن القراءة القضائية والفقهية لذلك النص قد رسخت قصد المشرع بكون الحكم المقصود هو الحكم النهائي البات، وهو ما جاء به الحكم من قراءة لذلك النص فتصدت محكمة النقض وفقًا لكونه قانونًا أصلح للمتهم رغم صدور الحكم النهائي المطعون فيه بجلسة 17 ابريل 2013 ولكنه لم يصر حكمًا باتًا.
وقد تصدى الحكم لفكرة القواعد الجنائية الإجرائية ذات الأثر الموضوعي، ودون الخوض فيما وضحه الحكم من مبادئ قانونية سلف ذكرها، وذلك لاقتصار موضوع المقال على نطاق السريان الزماني للقواعد الجنائية، وبالعودة لإدراج المادة 18 مكرر ب بقانون الإجراءات الجنائية كونها تتصل بتنظيم حق العقاب ولكن ذلك لم ينف عنها طبيعتها الموضوعية كقاعدة جنائية لكونها تنهي وتقوض حق الدولة في العقاب بتحقق التصالح، فتصدت محكمة النقض واعملت وفقًا لحكمها القانون الجديد بأثر رجعي كونه أصلح للمتهم.