في دوحة الإسلام (49)
في دوحة الإسلام (49)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 30/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
لا يوجد أحلى ولا أشفع ولا أكرم من « مأدبة الله ».. بهذا الوصف الحميد وصَفَ الرسول عليه الصلاة والسلام ـ وصف القرآن الكريم، فقال لنا فما روى عنه بإسناده :
« إن هذا القرآن مأدبة الله فأقبلوا على مأدبته ما استطعتم. إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين والشفاء النافع.. عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه.. لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد.. اتلوه فإن الله يؤجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات » .
يدعو هذا الحديث الشريف ـ يدعو المؤمنين إلى الإقبال على كتاب الله ويحببهم في تلاوته وتدبر أحكامه ومعانيه، ويدلهم إلى ما يؤدى إليه ذلك من هداية قلوبهم، وتنقية ضمائرهم، وتصفية نفوسهم، وعصمتهم من كل زيغ وباطل..
فالقرآن الكريم هو كتاب الله إلى عباده، ودستوره العلوي لمن أراد الرشد والهداية.. إنه هديته سبحانه وتعالى إلى خلقه ليؤمنوا ولا يشركوا.. ليرشدوا ولا يضلوا.. ومن هنا وصفه الرسول الكريم بأنه مأدبة الله، وحبله المتين، ونوره المبين..
فهو كتاب الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو حافل بجليل المعاني وصائب الأحكام، وهو الذكر الحكيم الذي يملأ القلوب عظة، والنفوس تبتلاً، والأفئدة خشوعًا لجلال الله تعالى وعظمته، وهو العروة الوثقى التي لا انفصام لها، والصراط المستقيم الذي لا غموض ولا اعوجاج فيه.
القرآن هو النور الذي يهدى إلى وحدانية الخالق البارئ، وإلى سننه في الكون، وإلى ما يصح به العبد في دينه ودنياه.. لذلك فإنه عصمة ونجاة لمن تمسك به واتبع ما جاء به.. وليس من سبيل للمؤمن للاستزادة من هذا النور والضياء، والاهتداء به ـ إلا الإقبال على تلاوة القرآن الكريم والتمعن فيه، وهو على ذلك مأجور من رب العالمين فوق ما يفوز به من رشد وهداية.. فالله جل وعلا يحب لعباده الإيمان، وسلوك كل ما يوصلهم إليه.. والقرآن الكريم خير ما يهدى إلى الإيمان، لذلك فقد أخبر النبي الكريم في حديثه الشريف بأن المولى تبارك وتعالى يؤجر على تلاوة الحرف الواحد من كتابه المبين بعشر حسنات، وقال عليه الصلوات في حديث آخر: « أفضل عبادة أمتى تلاوة القرآن » .
وتلاوة القرآن الكريم التي تفتح قلب المؤمن للعمل به، إنما هي القراءة الواعية المتمعنة، المتأملة المتدبرة.. لذلك فقد قال عليه أكرم الصلاة والسلام:« خيركم من تعلم القرآن وعلمه ».
وتعلم القرآن لا يكون إلا بالقراءة الواعية الدارسة المتفكرة، وهي وحدها مفتاح الإقبال الصحيح على سننه وأحكامه التي هي هدى العبد ورشاده، وعصمته ونجاته.. يقول عليه أفضل الصلوات والتسليمات: « أقرأ القرآن ما نهاك، فإن لم ينهك فلست تقرؤه »..
القرآن الكريم هو ملاذ المؤمنين إلى الوارث الباقى، وتلمس نوره وبهاه، وتمنى رضاه.. من استمسك به وبما فيه كان مهديا بالحق هاديا إليه.. يقول صلوات الله وسلامه عليه: « من قرأ القرآن فاستظهره فأحل حلاله وحرم حرامه ـ أدخله الله به الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته ».. صدق رسول الله .
بشارة للتوابين المستغفرين
روى أن أبا هريرة ـ رضى الله تعالى عنه ـ خرج يومًا بعد صلاة العشاء الآخرة..
فقابلته امرأة في الطريق .
فقالت : يا أبا هريرة إنى ارتكبت ذنبًا فهل لى من توبة ؟
فسألها أبو هريرة : ما ذنبك ؟
وإذْ روته له واستهوله، فقد قال لها : هلكتِ وأهلكتِ.. والله ما لك من توبة، فخرت مغشيًّا عليها .
ثم إنه بعد أن مضى لحاله.. أخذ يسائل نفسه ويلومها.. أأفتى ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أظهرنا ؟!!!! فلما التقى بالنبى ( صلى الله عليه وسلم ).. أخبره بما كان.. فقال له عليه الصلاة والسلام : هلكت وأهلكت.. فأين أنت من هذه الآية.. ثم تلا عليه قوله ـ تعالى : « وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ » إلى قوله سبحانه : « إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا » ( الفرقان 70 ) .
هذه بشارة لمن صدقت نيته وصح ندمه وتوبته عما فرط منه.. فإن الله هو التواب الغفور، الرحمن الرحيم.. لا تتعاظم معصية في جنب عفوه، ورحمته سبحانه قد وسعت كل شىء .
يقول ـ سبحانه وتعالى ـ في كتابه العزيز :
« قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ » ( الزمر 53 ) .
وفي الحديث القدسى :
« ما غضبتُ على أحد غضبى على عبدٍ أتى معصية فتعاظمها في جنب عفوى.. فلو كنت متعجلاً العقوبة أو كانت العجلة من شأنى لعجلتها للقانطين من رحمتى.. ولو لم أرحم عبادى إلاَّ من خوفهم من الوقوف بين يدى لشكرت ذلك لهم.. وجعلت ثوابهم منه الأمن لمن خافوا ».
روى أن الحسن البصرى ـ رضى الله عنه، وعظ يومًا في تفسير الآية : « أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ » ( الحديد 16 )
فأفاض وأبلغ حتى أبكى الناس .
فقام من بينهم شاب فقال : أيقبل الله ـ تعالى ـ توبة الفاسق الفاجر مثلى إذا تاب ؟
فقال له الحسن البصرى : أجل يقبل الله توبة فسقك وفجورك .
فأخذت الشاب غشية، فلما أفاق عاد للإمام يسأله : هل يقبل الرب الرحيم توبة مثلى اللئيم ؟
فقال له : وهل يقبل توبة العبد الجافي إلاَّ الرب العافي ؟!
فرفع الشاب رأسه يدعو ربه في توبته الصادقة ويقول: إلهي إن كنت قبلت توبتي، وغفرت ذنوبي، فأكرمني بالفهم والحفظ، وبحسن الصوت حتى تدرك الرقة من في قلبه غلظة إن سمعني أتلو القرآن، وأكرمني يا وهاب بالرزق الحلال .
كان دعاء الرحمة المهداة ـ عليه الصلاة والسلام :
« اللهم اغفر لي ذنبي .
« ووسّع لي خلقي.
« وطيّب لي كسبي .
« وقنّعنى بما رزقتني .
« ولا تذهب قلبي إلى شيء صرفته عنّى .
« إنك واسع المغفرة وسميع الدعاء.. »
الأدب والتقدير العمري
روى الحسين بن علىّ، أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أشار إليه أن يأتيه..
ولكنه وهو في طريقه إليه، لقى عبد الله بن عمر ابن أمير المؤمنين، فسأله من أين
أقبل ؟ . قال عبد الله : استأذنت على عمر فلم يأذن لي..
هنالك قفل الحسين عائدًا، ورجع عن الزيارة التي كان قد أزمعها، بعد أن رأى أن أمير المؤمنين لم يأذن لولده عبد الله .
بعد أيام، التقى الفاروق بالحسين، فسأله : ما الذي منعك يا حسين أنت تأتى إلىّ ؟
قال الحسين : أتيت، ولكن أخبرني عبد الله بن عمر أنك لم تأذن له عليك، فرجعت .
فقال عمر بحرارة : وهل أنت عندي مثله ؟! هل أنت عندي مثله ؟!
وهل أنبت الشعرُ على الرٍأس غيركم ؟..
يشير بذلك إلى أنهم زينة الإسلام، وبفضل جده تمت هذه الدعوة وأقيم هذا الدين .
وهكذا كان الأدب العمرى ورعاية الفاروق لآل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام .
* * *
إذا علقت جذور المعرفة في أرض القلب،
نبتت فيه شجرة المحبة،
فإذا تمكنت وقويت
أثمرت الطاعة ؛
فلا تزال الشجرة تؤتى أٌكُلها كل حين بإذن ربها٠٠
أرض الفطرة رحبة
قابلة لما يُغرس فيها،
فإن غُرست شجرةُ الإيمان والتقوى
أورثت حلاوة الأبد ؛
وإن غُرست شجرةُ الجهل والهوى
أورثت مرارة الحنظل !!!
من علامات صدق الإيمان ثلاث خصال:
الثقة بالله في كل شيء
والغنى به عن كل شيء
والرجوع إليه في كل شيء ٠
من نعم الله على عباده
أنه خلق الإنسان مريدًا
وجعله على خلقةٍ يريد بها
وأن يختار بعقله ما يريده ٠
من أفضل المقامات
اعتياد الصبر على المكاره ٠
لا يكون العبد عاملًا على معنى العبودية
حتى تكون إرادته وأمنيته وشهوته تابعة لمحبة الله .