مواجهة التحولات الإجرامية

مقال بقلم د. أشرف نجيب الدريني

هل يمكن حقًا أن نواجه جرائم القرن الحادي والعشرين بعقلية القرن العشرين؟ هل يليق أن نُدرّس لطلاب القانون اليوم أن السرقة هي اختلاس مال منقول مادي، بينما تُرتكب حولهم جرائم تُحوّل فيها ملايين الدولارات من شاشة إلى أخرى دون أن تُفتح خزانة واحدة؟ وكيف نطالب القاضي بفهم الجريمة الإلكترونية وهو لم يتلق في دراسته الأولى سوى أحكام السرقة وخيانة الأمانة في صورتها التقليدية؟ أليس من المؤلم أن تبقى قاعات الدرس أسيرة مفاهيم تقليدية بينما الواقع يعيد تشكيل الجريمة بأدوات لم يكن أحد يتخيلها؟

هذه الأسئلة ليست مجرد أفكار نظرية، بل نداء صادق لإعادة التفكير في بنية القانون نفسها. فالقانون التقليدي اليوم يواجه تحديًا وجوديًا أمام التحولات الإجرامية الرقمية. لم تعد الجريمة تترك أثرًا ماديًا، بل رقمًا، ولم تعد تعتمد على العنف، بل على الذكاء والاختراق والتلاعب بالأنظمة. ومع ذلك، ما زالت المناهج القانونية تُخرّج طلابًا يتعاملون مع السرقة وخيانة الأمانة كما لو أن الإنترنت لم يولد بعد. يدرسون المال المنقول ولا يعرفون المال الافتراضي، يدرسون التسليم المادي ولا يسمعون عن التحويل الإلكتروني، يعرفون البصمة الوراثية ولا يدركون قيمة البصمة الرقمية.

كيف نطلب من الطالب أن يصوغ مذكرة قانونية محكمة بالعربية أو الإنجليزية وهو لم يدرس اللغة القانونية بوصفها علمًا قائمًا بذاته؟ وكيف ننتظر منه أن يفهم فلسفة الجريمة الرقمية وهو لم يدرس الطب الشرعي الرقمي أو الأدلة الإلكترونية؟ اللغة القانونية ليست وسيلة للتعبير فحسب، بل أداة للفهم وبناء العدالة. ولذلك، يجب أن تُدرّس اللغة العربية من قبل متخصصين بوصفها “لغة القانون” في صياغتها ودلالتها، وأن تُدرّس اللغة الإنجليزية القانونية على يد خبراء، لأن العالم أصبح يتحدث بلغة المعرفة، لا بلغة الحدود.

ولا يمكن إغفال أهمية تأهيل أعضاء هيئة التدريس أنفسهم على التقنيات الرقمية وأساليب التعليم القانوني الحديث. الأستاذ الجامعي لم يعد ناقلًا للمعلومة فقط، بل صانعًا للوعي القانوني في عصر تتغير فيه الجريمة أسرع من الكتب. تطوير مناهج كليات الحقوق يجب أن يبدأ من داخل عقول أساتذتها، لأن الطالب يتعلم بقدر ما يرى أمامه نموذجًا حيًا للتجديد والفكر المتفاعل مع الواقع. حين يتقن الأستاذ لغة التقنية ويستوعب أدوات التحليل الرقمي، يصبح قادرًا على تخريج جيل يفكر بعين الغد لا بعين الأمس.

وفي إطار تطوير المناهج، يمكن اقتراح مواد عملية وواقعية تتناسب مع بيئة كلية الحقوق، مثل القانون الجنائي الرقمي، الجرائم السيبرانية، التحقيق والطب الشرعي الرقمي، الأدلة الإلكترونية، الذكاء الاصطناعي والجريمة، حماية البيانات والخصوصية الرقمية، واستخدام التكنولوجيا في مكافحة الجريمة. هذه المقترحات أدوات ضرورية لعقل قانوني يريد أن يواكب واقعًا جديدًا تجاوز الورق إلى الفضاء الرقمي.

لكن التعليم وحده لا يكفي. فالمسألة تتجاوز حدود القاعة الجامعية إلى عمق الفكر القانوني ذاته. نحتاج إلى فقه استشرافي يعيد للقانون روحه، حيث لا ينتظر الفقيه وقوع الجريمة ليحللها، بل يستبقها ويعيد صياغة المفاهيم قبل أن تتجاوزها الوقائع. الفقه هو بوصلة القانون وضميره الحي. ومن هنا تأتي ضرورة تطوير المفاهيم التقليدية مثل السرقة وخيانة الأمانة والنصب لتستوعب صور الجريمة الرقمية المعاصرة، حيث لم يعد المال مادة، بل قيمة رقمية تتحرك بسرعة الضوء، ولم تعد النية محصورة في الفعل، بل تمتد إلى الخوارزمية التي تنفذ الفعل ذاته.

أما التشريع، فلا بد أن يُصاغ على يد الفقهاء والخبراء المتخصصين، لا النواب وحدهم. القانون الجنائي لا يحتمل التسرع أو الارتجال، لأنه يمس الحريات والحقوق بدقة متناهية. بناء منظومة تشريعية معاصرة يتطلب لجانًا علمية تضم خبراء القانون والتقنية والطب الشرعي الرقمي، لوضع نصوص دقيقة تعرف الجرائم الإلكترونية وتحدد الأفعال المجرّمة والمسؤوليات القانونية عنها. القوانين التي كُتبت في زمن الورق لم تعد صالحة لعصر الذكاء الاصطناعي.

ويبقى القضاء الركيزة الأهم، ميزان العدالة وروح القانون. القاضي اليوم ليس مجرد مطبق للنص، بل مفسر له في ضوء الواقع المتغير. يجب أن يتلقى القاضي وأعضاء النيابة العامة تدريبًا مستمرًا في مجال الجرائم الرقمية والأدلة الإلكترونية، لأنهم يجسدون العدالة في لحظة التطبيق. القاضي الواعي يقرأ النص بعين الواقع، فيجعل من القانون كائنًا حيًا نابضًا بالعدالة، لا ورقًا جامدًا محبوسًا في الكتب.

أيها الطلاب الأعزاء، أمامكم مسؤولية عظيمة جدًا. عليكم أن تدركوا أن كلية الحقوق ليست مجرد مكان للتعلم، بل نقطة الانطلاق للتغيير والمواجهة. عليكم أن تحملوا شعلة المعرفة، وأن تكونوا روادًا في فهم الجريمة وتطوير القانون. ابدأوا من قاعات الدرس لتحدثوا فرقًا في قاعات المحكمة. كونوا جيلًا يفكر بعقل الغد ويتحرك بثقة وعلم، ليواكب الواقع الجديد ويحوّل التحديات إلى فرص للعدالة. تذكروا دومًا أن القانون لا يعيش في الصفحات، بل في العقول التي تجرؤ على التغيير، والقلوب التي تؤمن بالعدل. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى