من عبر النظام السابق !
من عبر النظام السابق !
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 19/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
كان من عيوب بل كوارث النظام السابق، الذي أدى إلى انتفاضة يناير 2011، أنه أضمر الالتفات عن الديمقراطية وإهدار ما تقتضيه من احترام وإعمال رأى الأغلبية من خلال مؤسسات تشريعية وتنفيذية تلتزم باحترام المبدأ، وتلتزم معه باحترام الإنسان وحقوقه المتعارف عليها في كل دساتير العالم، واحترام سيادة القانون وتنفيذه على الحاكم والمحكوم، وكفالة العدالة بعامة والعدالة الاجتماعية بخاصة، وحفظ حق المواطن قبل السلطات والهيئات، وفيما بين الأفراد، في ظل منظومة للعدالة لا تفرق ولا تميز بين المواطنين، وتحترم حقوقهم وتكفل حرياتهم وتضمن عدم المساس بها أو التعرض لها إلاّ من خلال إجراءات قضائية ينص عليها الدستور ويكفل التزام القانون والسلطات بها .
ويبدو لمن يستقصى أسباب الغليان وقيام انتفاضة يناير 2011، ومن ثم أهم أهداف الثورة وقيمها، أن النظام أعطى ظهره للقانون، مثلما أعطى ظهره لقيمة وكرامة الإنسان.. ولأن النظام أراد أن يقدم واجهة للعالم وللناس خلاف ما يضمره ويمارسه، فقد عنى باستكمال الشكل، والعبث في صلاته وعلاقاته، دون احترام المضمون، فكان أن تكرست ظاهرة التآمر على القانون بالقانون، ونهض على ذلك ترزية للقوانين أجادوا التطريز والصياغة على هوى السلطة، ليبدو في الظاهر أن السلطة تحترم القانون، بينما القانون نفسه قد صار بالتطريز مهيضًا لا يعبر عن المجتمع وصوالح الناس . واللعب بالقانون أخطر من إهدار القانون، لأن الإصلاح بعد ذلك يتطلب جهودًا مركبة من خلال تعديل القانون المطرز والرجوع إلى القانون الواجب، ثم معالجة الأوضاع التي تنشأ في فترة تطبيق هذا الجنوح التشريعي !!
وكان من الطبيعي الذي لم يلفت السلطة في الحقبة المنقضية، أن إهدار كرامة وحقوق الإنسان قد صار تبعا ملازما لعدم احترام القانون احتراما حقيقيا، وإباحة التآمر عليه باستيفاء الشكل والعصف بالمضمون.. فكان العصف بالحريات قاسما مشتركًا في أداء الإدارة بكل سلطاتها وهيئاتها وأجهزتها وأفرادها.. وعمّت المظالم، وصار التزام الصمت هو سبيل الأمان والزلفي أيضا.. وصار الجو العام خانقا، وصار المشاركون أتباعًا لا رأى لهم إلاّ ما يراد منهم أن يبدوه.. وغابت العدالة وعمت المظالم ولم ينج إلاّ من وجدوا الحماية في جانب النظام الذي أجرى مصاهرة متينة وثيقة بين السلطة وبين الثروة، حتى أمست السلطة في خدمة الثروة، وصارت الثروة داعمة للسلطة، واختلط العام بالخاص اختلاطًا هائلاً لم تشهده مصر في أي عهد من العهود !!
في هذه المصاهرة العريضة التي عقدها النظام السابق مع الثروة، تغوّلت الثروة في شئون الوطن واغتالت مقدراته وثرواته اغتيالا متنوعاً باركته السلطة وحمته وسترت عليه، ورأينا في التحقيقات والمحاكمات التالية ليناير 2011، بعض جوانب هذه الصورة المؤسفة التي أميط عنها اللثام.. على أن زواج السلطة بالثروة، وتبادلهما التخديم والمنافع، لم يخل من شر مستطير آخر، فلم يلتفت النظام بجناحيه : السلطة والثروة ـ إلى استشراء الفقر ووصوله إلى حدود مفزعة واتساع الهوة بشكل مخيف بين الفقر المدقع وبين الثراء الفاحش الذي بلغ حدودًا ومظاهر مستفزة، غاب عنها العقل، ما بين الأفراح الباذخة التي تنفق عليها الملايين، وبين العيشة غير الآدمية التي يعيشها الفقراء في العشوائيات والمقابر ويتغذى عليها أطفال الشوارع في مقالب الزبالة.. والعجيب أنه مع هذه الفوارق الضخمة المفزعة التي لم تنتبه إليها العيون الضريرة أنه فات أيضًا أن الثروة والفقر متجاوران في بر مصر.. جيرة يستحيل معها على الفقير ألا يرى مظاهر الثراء المستفزّة التي تعاير فقره وجوعه وعريه وتعاسته وبؤسه.. فعشش الترجمان كانت قبالة الزمالك، وكثير من العشوائيات على مشارف الأحياء الناعمة، والعربات الفارهة تجرى بالشوارع بجوار العربات الكارّو وعربات الزبالة المتهالكة التي يتساقط منها ما لا يلذّ ولا يطيب ومع ذلك تتسقطه أفواه الأطفال الشاردين في مقالب الزبالة .
ولم يلتفت عاقل إلى خطورة هذا الجوار الضرير، ولا إلى غياب الوظيفة الاجتماعية للمال، ولا إلى آثار العشوائيات وما تفجره، فوقعت الواقعة، وقفز عليها الإخوان، ولم يرحلوا إلاَّ بانتفاضة الشعب كله انتفاضة كانت أثرًا لجرائر حكمهم حتى بلغت القلوب الحناجر، وخرج الشعب جميعه يقول لا لحكم الإخوان !