من روائع الأدب القضائي في محاكمة جنائية لمحام
بقلم: أ/ محمد شعبان
بينما كنت أتجول في ذات يوم بمكتبة كلية الحقوق جامعة القاهرة، إذ وقع بصري على بعض الأعداد من مجلة «القانون والاقتصاد» وهي المجلة الدورية التي تصدرها كلية الحقوق جامعة القاهرة منذ ثلاثينيات القرن الماضي. وإذ بي وأنا أتصفح بعض هذه الأعداد إذ وقعت عيناي على بعض الكتابات النفيسة المسطرة بيد قاض جليل يدعى المستشار/ محمد فتحي.
وهذا القاضي الجليل ربما لم يسمع باسمه الكثيرون، لكونه لم يشتهر بظهورة على ساحات الإعلام، ولم يكن له نصيب في أن يعلم عنه الناس اللهم إلا الباحثين منهم طلباً لعلم النفس، سيما علم النفس الجنائي والقضائي. فذلكم قاض جليل وظَّف علمه لخدمة العدالة، ففوق كونه كان قاضياً، كان عالماً ورائداً من علماء ورواد علم النفس، وكان يدَّرِس في معهد العلوم الجنائية الذي كان يتبع كلية الحقوق جامعة القاهرة آنذاك، ومن قبله بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أحد أكبر الصروح العلمية في مجالات البحوث الاجتماعية والجنائية في مصر والشرق الأوسط.
وإذ تصفحت هذا العدد وهو الأول للسنة الحادية عشرة مجلد يناير 1941– فصافح بصري بحثٌ نفيس كتبه هذا القاضي الجليل تحت عنوان «المحاكمات الفورية ونفسية القاضى المجنى عليه في الجلسة».
وبينما أنا علي هذا الحال إذ وقعت عيناي على عدد آخر من أعداد هذه المجلة النفيسة، فصافح بصري بحث آخر بعنوان «بعض العوامل اللاشعورية التى تؤثر فى وجدان القاضي ونزاهة عدالته»، وعندما جلتُ ببصري في هذين البحثين، وتعمقت في قراءتهما وجدت نفسي مدفوع لإخراج هذه النفائس، والكتابة عنها، لاطلاع المهتمين ولفت انتباههم إليها، ولإعادة تلاوة هذه المقطوعات الأدبية التي سطرها واحد من قضاة مصر في عصرهم الذهبي.
وفي الحقيقة أكثر ما لفت نظري وقررت أن أكتب عنه من هذين البحثين – سيما في هذا المقال- هو البحث الأول الذي تناول فيه هذا القاضي الأديب واحدة من أهم المسائل وأكثرها أهمية في ساحات العدالة، وهي «المحاكمات الفورية ونفسية القاضي المجني عليه». ولعل الرغبة التي دفعتني لذلك كانت لسببين؛ أولهما: أن هذه المحاكمات الفورية والعاجلة في وقتنا الراهن أضحت حديث الساعة وصارت شائعة. والسبب الثاني فأردت أن أنقل تجربة عملية حية من تاريخ القضاء لقاض كيف استطاع أن يوظف علمه وعقله وأن يتحكم بنفسه إحقاقا للعدالة وانتصاراً لها.
وقد عرض القاضي في بحثه المذكور لتجربة عرضت له وقت أن كان رئيساً للدائرة الأولي بمحكمة المنيا الابتدائية الأهلية عام 1938، فعرضت عليه حينها معارضة استئنافية عن حكم صدر ضد أحد المحامين، ويدعى «صادق مرجان»، والذي جرى تحريك الدعوى الجنائية في مواجهته عن واقعة تعدي على هيئة المحكمة، والمعاقب عليها بالمادة (133) من قانون العقوبات؛ وكانت هذه الواقعة تخلص في أن المحامي سالف الذكر طلب من المحكمة تأجيل القضية نيابة عن زميله المريض، فرفضت المحكمة طلبه.
فصدرت عنه عبارة (ميبقاش كده) التي اعتبرتها المحكمة إهانة موجهة إليها، ما دعاها إلى إثباتها في محضر الجلسة، وقد دافع المحامي عن نفسه بأنه لم يقصد بها المحكمة، وإنما كان يُسِر لزميله المحامي بحديث بأن يطلب التأجيل من المحكمة لحين حضور المحامي الزميل، فرفض فخرجت منه هذه العبارة، وهو ما التفتت عنه المحكمة واعتبرته تهرباً من المسئولية. وبعد أن خلت المحكمة إلى نفسها في غرفة المشورة، أصدرت حكمها بإدانة المحامي سالف الذكر دون توجيه للإتهام له وفقاً للقانون، وهو ما اعتبره المحامي أنه حكماً غيابيا وليس حضوريا فعارض فيه.
وحينما عُرضت تلك الدعوى على دائرة القاضي المستشار/ محمد فتحي، أصدرت حكمها بقبول المعارضة شكلاً وبطلان الحكم المعارض فيه لعدم اتباعه الإجراءات. وقد أورد هذا القاضي الجليل في حكم عدداً من التقريرات والمبادئ القانونية التي سطرت بأحرف من نور، وقد عرض لها سيادته في مقالته المذكورة، والتي نحيل إليها لكل من يريد أن يستزيد ويتعرف عليها، مكتفيا في هذا المقال بأن أعرض لتعقيب سيادة القاضي المذكور على هذا الحكم، والذي استهله بقوله ” إن الحكم المتقدم قد لا يقبل بالترحيب من جانب بعض رجال القضاء خصوصاً لصدوره في ظروف كانت فيها حصانة المحامي المترافع بالجلسة محل تنازع بين الهيئتين الحاكمة والمحكومة.
وأن تعديل التشريع لصالح الهيئة المحكومة كان موضع نظر جدي، على اعتبار أن ما اشتمل عليه الحكم من نظريات ومبادئ قد يتخذ حجة لتبرير وجهه نظر رجال المحاماة، غير أنه بالتأمل يرى أن الأمر على النقيض من ذلك، إذ أن الحكم حينما رمى الي تنزيه ضمير القاضي من أثر النزعات الشخصية، وتطهير وجدانه من سلطان العوامل اللاشعورية، فقد رمى الي تقوية موقفه من هذه الناحية، وإضعاف حجة القائلين بوجوب نزع هذه السلطة من يد القاضي، لأن كل حجة للمطالبين بالحصانة انما تقوم على فكرة تأمين المحامي المترافع بالجلسة على نفسه من عسف القاضي.
واندفاعه وهو في ثورة الغضب، وراء نزواته الباطنية ونزعاته الذاتية، على حين أن الحكم قد جاء برهاناً عملياً على أن في وسع القاضي أن يروض نفسه على تجريد ضميره من أثرغرائزه الأولية وشهواته الذاتية، ومهد للقاضى سبيل الخلاص من سلطان هذه العوامل، ورسم له طريق تحرير ذاته من سيادة شهواته، فالذى جاء يطلبه المحامي اليوم انما هو وليد اغفال بعض رجال القضاء ما اشتمل عليه الحكم من مبادئ، لو روعيت لما أحس المحامى أو غير المحامى بوحشة الظلم وهو فى حرم العدالة، ولما قام مناد من بينهم ينادى بوجوب تعديل التشريع لتحصين المحامي المترافع بالجلسة من شطط القاضى وعسفه، إذ له من حكمة القضاء ونزاهة عدالته خير ضمان لتأمين ذاته وطمأنينة نفسه“.
كما استطرد السيد القاضي في بحثه القيم تعقيباً على هذا الحكم، فقال: “أن الحكم وان اعتبر المحاكمة الفورية حقاً بغيضاً على القاضى أن يزهد فيه بقدر المستطاع، حتى يكون فى مأمن من الوقوع فى شراك هوى نفسه، إلا أنه مع ذلك لا يشاطر القائلين بوجوب حرمان القاضى من حق المحاكمة الفورية الرأى فيما يذهبون إليه، لأن مثل هذا الحق يجب أن يبقى قائماً كمجرد ضمان لصيانة حرمة القضاء اذا ما تعرضت لخطر الامتهان أو الاعتداء، وإنما لا يجوز للقاضي أن يسرف فى استعماله، أو يلجأ إليه إلا عند الضرورة القصوى، وعندما تصبح المحاكمة الفورية أمراً لا مفر منه”.
وتابع في قوله “ان مجرد قيام الحق في القانون بذاته كفيل بأن ينتج أثره المطلوب من حيث ردع كل من تحدثه النفس بالعبث بالنظام، ويلقي في روع الجمهور ما يجب على كل فرد نحو القضاء من تقديس واحترام. ومثل هذا الحق كالحق المخول لقاضى التحقيق أو لهيئة المحكمة باصدار أمرها بالقبض على الشاهد المتعنت فى الحضور واحضاره قسراً إلى ساحة القضاء، فإنى لا أذكر أن فى تاريخ القضاء حادثاً واحداً دعت فيه الحاجة إلى استعمال هذا الحق، ولكن مما لا يغيب عن الذهن أن مجرد قيام النص فى القانون هو خير ضمان لعدم الحاجة إلى استعماله، وانه كفى القضاء مؤونة الالتجاء إلى مثل هذا الاجراء الشاذ، فوجود مثل هذا الحق فى يد القاضى لمن أقوى البواعث على خضوع الشهود لسلطة القضاء والمبادرة إلى تلبية أوامره دون تلكؤ أو مراوغة.
فأمثال هذه النصوص كمثل الغدد الصماء التى لا يشعر الانسان بوظيفتها أو فائدتها العملية للجسم الا حين استئصالها منه، فهي نصوص لا مفر من وجودها فى القانون ولو وجوداً شكلياً فحسب، إذ بقاؤها لازم لأداء مهمة الرقابة القضائية، وهى مهمة بذاتها كفيلة بتحقيق الغاية المنشودة منها، دون حاجة إلى تطبيقها عملياً فى أغلب الأحيان، فهى مواد صيانة أو مواد حراسة أكثر منها مواد عمل وتطبيق”.
بتلك الكلمات أنهى قاضينا الجليل بحثه النفيس، تاركاً خلفه سراجاً منيراً تُبثُ منه قيمٌ وآدابٌ رفيعةٌ، ودروس عظيمة في الأدب القضائي من شأنها أن تزيد السلطة القضائية رصانة ورسوخا متى اهتم رجالها باقتفاء آثار أسلافهم.
رحم الله المستشار القاضي الدكتور/ محمد فتحي وطيب الله ثراه ورزقنا بالكثير من أمثاله، والله من وراء القصد،،