من توابع الفوضى! (3)
من توابع الفوضى! (3)
نشر بجريدة الوطن بتاريخ 19/3/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
من الفوضى، أو بالأحرى من الارتباك وقلة الخبرة، تشكلت لجنة ثانية، خلاف الأولى، لتؤدي مهمة تعديل المواد المعيبة بدستور 1971، وبغض النظر عن الملاحظات التي قيلت حول تشكيل اللجنة، وضم محام من جماعة الإخوان إليها لا خبرة له بالمسائل الدستورية، فإنه كان الأجدى، أن يوكل إلى اللجنة إتمام هذه المهمة بمراجعة دستور 1971 برمته، وهي لو فعلت لكان من السهل جداً، بعد تقليص السلطات الواسعة المقررة فيه لرئيس الجمهورية، الإبقاء على هذا الدستور الذي لا عيب في باقي مواده بعد هذه الإصلاحات المستفتي عليها في 19 مارس 2011، وبعد تقليص سلطات رئيس الجمهورية، ولو تم ذلك، لكان كفيلاً بأن يقينا الفوضى التي دخلنا فيها لوضع دستور بقينا نتخبط في ترتيبات وضعه من خلال التخبط في تشكيل الجمعية التأسيسية، هذا التخبط الناجم عن رغبة الإخوان والسلفيين في الاستحواذ على الجمعية توطئة للاستحواذ على الدستور المزمع وضعه.
كانت هذه الغلطة، هي التي قادت إلى سلسلة من الأغلاط التي عانينا منها، أولها، البدء بانتخابات مجلسي الشعب والشورى قبل وضع الدستور، بيد أن هذه الغلطة، وتوابعها، ظلت تفضي إلى فوضى تُسلم بدورها إلى فوضى!
تجلى هذا في المحاولة الإخوانية / السلفية الأولى لتشكيل الجمعية التأسيسية، فقد فرضا خلافاً لما ارتآه كل المصريين، أن يخصصا «حصة» تحكمية (50%) لمجلسي الشعب والشورى في تشكيل الجمعية، وقاما بانتخابها من الإخوان والسلفيين طبعاً، ولتشارك أيضاً في اختيار الـ50% المتبقية، وقد أفرز هذا التحكم الفوضوي، جمعيةً تأسيسيةً لا تعبر عن مصر، ولا عن مصالح مصر، ولا عن مقتضيات وضع دستور للبلاد يعبر عن كل المصريين، وليس فقط عن الفصيلين اللذين تمكنا من الاستحواذ على مجلسي الشعب والشورى نتيجة البدء بانتخاباتهما قبل الدستور، وبقوانين غير دستورية فصلت لصالح الإخوان على نحو ما سلف، هي المراسيم 108، 120، 123 لسنة 2011. وكان من المفارقات المؤسفة أنه مع اختيار طالب بالسنة الأولى بطب الأسنان، ولاعب كرة، خلت الجمعية المتحكم في اختيارها من قامات عديدة، سواء من أساتذة القانون والفقه الدستوري على التخصيص، أم من غيرهم من العلماء الكبار في الاقتصاد والفكر السياسي، وفي الثقافة والتعليم، وفي الصناعة والزراعة والتجارة، وغير ذلك من المجالات اللازمة لوضع التصورات العامة للدستور التي ينهض في النهاية رجال القانون والفقه الدستوري على صياغتها في مواد تشكل في النهاية الدستور المأمول للبلاد.
لم يحتكم هذا الاختيار التحكمي المستحوذ إلى العقل، ولم يراع المصالح العامة، ولم يصدق أن هذا العمل الضرير مخالف للقانون ومآله إلى البطلان، إلى أن أتاه خبر اليقين في حكم محكمة القضاء الإداري، الذي أوقف قرار المجلسين لما شابه من بطلان تحدثت به الركبان، ورآه الكافة إلاّ المتحكمون في هذا الاختيار الضرير!!!
مع أن الإخوان أبدوا، خلال حوار الأطياف الوطنية مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الاستعداد لتشكيل جمعية تأسيسية تعبر عن كافة أطياف المجتمع، إلاَّ أنه حين جد الجد، تخلف الإخوان عن حضور الاجتماعات، ثم فاجأوا الجميع بعقد جلسة لمجلس الشعب قبيل الحكم القاضي بحله، حيث قاموا بوضع مشروع قانون لتحديد ضوابط ومعايير انتخاب الجمعية التأسيسية، ومن هوجة العجلة العجولة، لم ينتظروا إصدار القانون سالف الإشارة، حيث يتفق الإعلان الدستوري 30 مارس ودستور 1971، على أن القوانين لا تصدر إلاَّ من رئيس الجمهورية الذي حل محله مؤقتاً رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
سارع المجلسان: الشعب والشورى، صبيحة المشروع الذي لم يصادق عليه، ولم يصدر ومن ثم لم يصدر قانوناً، فاجتمعا وانتخبا جمعية تأسيسية، لم يكتفيا بأن 70% من أعضائها من الإخوان والسلفيين، ولا بأن الاختيار كما سلف في المرة الأولى قد تجاهل كثيراً من فقهاء القانون والدستور، وكثيراً من قامات مصرية عالية وقادرة ومحل احترام وتقدير، وإنما خالف حكم محكمة القضاء الإداري، واختار أربعين عضواً من مجلسي الشعب والشورى وجميعهم كالعادة! من الإخوان والسلفيين، فحكموا سلفاً على هذا الاختيار المتعسف بالبطلان، لعدة عيوب لا تفوت البصير!! لندخل من فوضى إلى فوضى كما سوف نرى!!
بدأت الجمعية التأسيسية الثانية مهمتها، بمشكلات متراكبة من جراء العجلة، أو إن شئت من جراء شيوع الفوضى بتجاوز الأصول والضوابط والمعايير.. استقبلتها دعاوى قضائية ببطلان تشكيلها، لأنه جرى اعتسافاً قبل صدور قانون بمعايير وضوابط تشكيلها، وخلافاً لحكم القضاء الإداري باختيار أربعين عضواً من مجلسي الشعب والشورى، واستقبلتها اعتذارات وانسحابات جسدت مشكلة إثر غياب مجلس الشعب بعد حكم الدستورية العليا 14/6/2012، فقد كان مجلس الشعب المنوط به استعواض من يتوفى أو يعتذر أو ينسحب أو يستقيل من عضوية الجمعية التأسيسية. فما الحل، ولم يعد لمجلس الشعب وجود؟!
نبتت فكرة الأخذ من القائمة الاحتياطية بترتيب كتابة الأسماء فيها، فاعترض أحد أعضاء حزب التجمع بأن هذه العشوائية سوف تخل بالتمثيل النسبي في تشكيل الجمعية.. فقد يكون المعتذر أو المنسحب أو المستقيل مسيحياً أو من الكنيسة، بينما الالتزام العشوائي بمجرد ترتيب كتابة الأسماء بالقائمة الاحتياطية، يومئ بمسلم أو بأحد علماء الأزهر، أو العكس. فيختل التمثيل النسبى بالجمعية، فرد أحد أعضاء حزب الحرية والعدالة بأن غير ذلك سوف يؤدى إلى بطلان. فبدا أن الإجراءات تهرب من بطلان إلى بطلان!
وتوالت الانسحابات والغيابات، مع استقالة أربعة أعضاء من مجلس الشورى من عضوية اللجنة من الحرية والعدالة والسلفيين، درءاً فيما قيل لشبهة مخالفة قرار التشكيل الثاني للجنة، ولم يلتفت أصحاب الاقتراح إلى أن هذه الاستقالات تؤكد الشبهة ولا تنفيها، لأنها إقرار ضمنى بأن الاختيار من الشعب والشورى يوم انتخاب الجمعية كان خطأ، وأن العبرة في تقييم القرار بعناصره وقت صدوره، ولذلك لا يجبر أن يستقيل أعضاء الشورى، أو أن تزول صفة العضوية بمجلس الشعب بعد حكم الدستورية العليا!!
وفي محاولة لرأب بعض الصدع، صادق رئيس الجمهورية آنذاك وأصدر مشروع قانون الضوابط والمعايير الذي لم يصدر قبل صدور حكم الدستورية العليا، وانقضى بذلك وجوده، لأن الاستثناء الذي جاء بحكم الدستورية العليا، لا ينصرف إلاَّ للقوانين التي صدرت صحيحة قبل الحكم، ولا يسرى على مشاريع القوانين التي لم تصدر، ومن ثم انصرف التصديق والإصدار إلى معدوم، وحمل مفارقة تتضح من مراجعة مواده، فكل ما تدعو إلى الالتزام به قد صار كله من الماضي، وكأن القانون ينظم أسلوب حملٍ لمولود قد ولد بالفعل، وكان ذلك من توابع الفوضى التي لا يمكن أن تفضى إلاَّ إلى فوضى تراكب الأغلاط غلطاً وراء غلط!!!