من توابع الفوضى ! (11)
من توابع الفوضى ! (11)
نشر بجريدة الوطن الجمعة 21 / 5 / 2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
القرار الجمهوري 58/2012 الصادر بنفس يوم صدور القرار 57/2012، استقل بمنحى منفرد يبدو في ظاهره وكأنه امتداد لقرارات العفو ما قبل الثورة التي كانت تصدر في المناسبات بالعفو عن ربع أو ثلث مدة العقوبة السالبة للحرية المحكوم بها ـ فالقرار 58 لم يتضمن أسماء، وإنما تضمن حالات على غرار ما كان يجرى في السالف، وذلك بمناسبتي العيد الستين لثورة يوليو وعيد الفطر، إلاّ أنه لم يلتزم بالمعايير السابقة، ففتح الباب على الواسع، فأعفي المحكوم عليهم بالمؤبد إذا كانوا قد نفذوا 15 سنة، ومن نفذوا نصف المدة بالنسبة لباقي العقوبات، والمحكوم عليهم بعدة عقوبات سالبة للحرية عن جرائم وقعت منهم قبل دخولهم السجن ( أي معتادي الإجرام ) إذا كانوا قد أمضوا بالسجن نصف مجموع مدد العقوبات، ومع هذا الكرم في المدد المعفي عنها خلافًا لما كان يجرى، فإنه يحمد للقرار أنه التزم باستثناء جرائم حددها من سريان العفو، وليته فعل ذلك في القرارات أرقام 57، 75، 122 ـ لسنة 2012.
ففي 16 أغسطس صدر القرار الجمهوري 122 لسنة 2012، وتساند إلى جوار الإعلان الدستوري 30 مارس، إلى الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس لنفسه والمعدل تاريخ إصداره إلى 11 أغسطس بدلا من 12 أغسطس 2012. ونصت مادته الأولى على العفو عن العقوبة الأصلية، أو ما تبقى منها، وعن العقوبة التبعية لعدد / 41 محكومًا عليهم في جنايات لم يبينها القرار صدرت من محاكم مختلفة ما بين السويس والقاهرة والإسماعيلية وأسوان وطنطا وأسيوط، ونصت المادة الثانية على العفو عن العقوبة الأصلية لأحد عشر محكومًا عليهم في جنح لم يبينها القرار، ونصت المادة الثالثة على العفو عن العقوبة التبعية (؟!) المحكوم بها على المدعو / خيرى عادل خيرى عطية في القضية 1214/334 لسنة 2011 جنايات ع كلى الإسماعيلية، ونصت المادة الرابعة على تخفيف العقوبة المقضي بها على أربعة صدرت ضدهم أحكام عن جنايات، فنص القرار على تخفيف عقوبة كل منهم إلى سنة، دون أن يبين أصل العقوبة المحكوم بها، ولا نوع الجريمة التي أدين بها.
وواضح أن العفو قد شمل محكومًا عليهم في جرائم جنائية خطرة، منها القتل العمد والشروع فيه، وإحراز وحيازة الأسلحة النارية والذخائر، وبعضها بقصد الإتجار فيها، وجرائم السرقة والخطف والتخريب والإتلاف، وكلها من أخطر الجرائم الجنائية.
وفي غير إعلان، ولظروف لم تتصل بالناس، ربما في زيارة الرئيس السوداني لمصر، صدر في 3 سبتمبر 2012 قراران جمهوريان، كلاهما بالعفو عن سودانيين، فأعفي القرار 155 لسنة 2012 مائة وعشرين مواطنًا سودانيًا، ولحقه بنفس اليوم القرار 157 لسنة 2012 بالعفو عن واحد وعشرين مواطنًا سودانيًا، ولا اعتراض على مجاملة الإخوة السودانيين أو الرئيس السوداني فيما يتصل بالجرائم الصغرى لمن دخلوا مصر من غير المنافذ الشرعية أو تواجدوا في مناطق ممنوعة، إلاّ أنه تلاحظ أن العفو شمل جرائم كبرى وعقوبات غليظة وفي أمور تمس صميم أمن البلاد، فمن المعفو عنهم من قضى بعقابهم بعقوبات السجن عن حيازة وإحراز أسلحة نارية وبنادق آلية وذخائر واستعمال القوة والعنف والتواجد بمناطق عسكرية محظورة، فضلًا عن حيازة أجهزة اتصال لا سلكي وأجهزة للبحث عن المعادن في باطن الأرض، وكلها جرائم تمس عصب الأمن القومي المصري، وفي مناطق حدودية يجب أن يسود الانضباط دخولها والتعامل فيها !
وغنى عن البيان، أن العفو عن العقوبة له غايات وضوابط يجب الالتزام بها، فهو باب لا يتسق مع النظام القانوني للدول، إذ بمقتضاه يخول لشخص مصدر القرار إبطال آثار الأحكام القضائية الصادرة عن محاكم الدولة، وينطوي على خرق مبدأ الفصل بين السلطات بإخلاله بقوة الحكم وباستقلال القضاء الذي أصدره، ثم هو يمس بالصفة اليقينية للعقوبة، ويفتح بابا لعدم الخضوع لها، وقد يكون هذا الخضوع لازمًا وواجبًا.
وسلطة رئيس الدولة في العفو، ليست سلطة تحكمية، وإنما هي تمارس على أساس من ذات الاعتبارات التي يسترشد بها المشرع والقاضي حين يسن أولهما العقوبة، ويوقعها أو يطبقها الثاني في إطار ما يحكم القاضي من أدلة الإدانة والبراءة، ومواءمة وتفريد العقوبة إن حقت الإدانة. وعلى ذلك فإن العفو الرئاسي محكوم بوجوب موافقته لمصلحة المجتمع، ووجود مصالح حقيقية تبرر هذا العفو، والذي عنى القانون بوضع ضوابط لممارسته تحديدًا وتقنينًا له.
قد رأينا أن المادتين 74، 75 عقوبات، وضعتا ضوابط، فنصت أولاهما على أن العفو لا يسرى أصلًا على العقوبات التبعية والآثار الجنائية الأخرى المترتبة على الحكم بالإدانة، ما لم ينص في أمر العفو على خلاف ذلك، والمقصد من النص تنبيه صاحب القرار إلى أن العفو هنا مركب مضاعف، وإلى لزوم أن يكون لمثل هذا العفو المضاعف اعتبارات حاضرة في ذهن صاحب القرار. ومثل ذلك، بل وأحوط منه، ما نصت عليه المادة 75 عقوبات، من أنه عند إبدال العقوبة بأخف منها، لا يجوز النزول إلاّ درجة واحدة، من الإعدام إلى السجن المؤبد، وأنه في حالة العفو عن السجن المؤبد أو استبداله بعقوبة أخف ـ يتعين وضع المعفو عنه حتمًا ــــ وكما قال النص ـــ تحت مراقبة البوليس مدة خمس سنوات، كما أكدت فقرتها الأخيرة على أن العفو لا يشمل الحرمان من الحقوق والمزايا المنصوص عنها في الفقرات الأولى والثانية والخامسة والسادسة من المادة / 25 من قانون العقوبات، ما لم ينص في العفو على خلاف ذلك. فهذا بدوره تنبيه إلى ضوابط، وإلى وجوب أن يستند الخروج عنها إلى اعتبارات يجب أن تكون حاضرة في إصدار العفو على خلافها.
وأنت لست بحاجة لأن أذكر لك أن قرارات العفو المتعاقبة التي عرضتها، قد خرجت عن ذلك، ولم تلتزم به، ونزلت ـ مثلًا ـ بعقوبة الإعدام لمدة 15 سنة، وأعفت عن بعضها بلا عقوبة بديلة، ولم تقرر قط وجوب وضع المعفو عنه تحت مراقبة البوليس لمدة خمس سنوات أو حتى أقل من ذلك.
زد على ذلك أن قرارات العفو خرجت عن قاعدة أن للعفو عن العقوبة طابعًا احتياطيًا، بمعنى أنه لا يلتجئ إليه إلاّ إذا صار الحكم بالعقوبة باتًا، فما دام الحكم غيابيًا يجوز المعارضة فيه، أو قابلًا للطعن بالاستئناف أو بالنقض، فإن العفو عن العقوبة يغدو ماسًا وتعرضًا للسلطة القضائية بغير موجب ولا مبرر، ما دام في وسع المحكوم عليه أن يعارض في الحكم الغيابي، أو يستأنف الحكم الحضوري، أو يطعن عليه بطريق النقض.
وفي ذلك تقول محكمة النقض إن محل العفو: « أن يكون الحكم القاضي بالعقوبة غير قابل للطعن بأية طريقة من طرق الطعن العادية أو غير العادية ».
كما يتعين أن تكون العقوبة المحكوم بها لم تنقض بعد، ذلك أنه لا علة للعفو إذا كانت العقوبة قد انقضت، حالة كون هذا العفو لا يمحو الإدانة كالعفو الشامل الذي لا يكون إلاّ بقانون. هذا بينما شملت قرارات العفو محكومًا عليهم بأحكام غيابية، وبأحكام قابلة للطعن عليها مما غدا معه العفو مصادرة على السلطة القضائية.
على أن محاذير وأخطار هذه القرارات، ما حملته بعض الصحف من أن بعض من شملتهم قرارات العفو، تخصص في توريد السلاح إلى سيناء، ومنهم من قضى بعقابه بالسجن المؤبد، وأن شيوخ القبائل السيناوية قد اعترضوا بسبب الإفراج عن (16) مهربًا للأسلحة الثقيلة، ومنهم أربعة من قتلة شهداء رفح، وأن قرارات العفو صدرت من الرئاسة مباشرة إلى مصلحة السجون مما حال دون اتخاذ الإجراءات الاحتياطية الواجب اتخاذها.