من تراب الطريق(1184)
من تراب الطريق(1184)
الإمام الطيب
والقول الطيب
ـــ
بقلم : رجائى عطية
الفتاوى الدينية
وحتمية التجديد
حتمية التجديد حقيقة واجبة الإعمال ، لم يَعُد يجادل فيها عالِم مدرك لواجبه إزاء الإسلام ، وقد كتبتُ فى ذلك كتابًا ضخمًا فى تجديد الفكر والخطاب الدينى ، أحيل عليه لمن يريد .
وفضيلة الإمام الأكبر يربط هذا الواجب الحتمى بالفتوى ودورها ، وهو ربط بصير ، ألقاه فضيلته فى مؤتمر « الفتوى .. إشكاليات الواقع وآفاق المستقبل » ، الذى نظمته دار الإفتاء فى أغسطس 2015 .
ودعونى أنقل إليكم ما قاله الإمام الطيب بلفظه . قال :
« وقد أدركتُ من خلال قراءتى فى سيرة الإفتاء والمفتين أن التحرُّج والتأثُّم كانا عُدَّة المفتى وعتاده ، ومنبع اطمئنانه ، ورضاه عن كل ما يصدر عنه من فتاوى ، وإجابات على أسئلة الناس .. بل كان الميزان البالغ الحساسية فى مفترق طريق تضل فيه الفتوى ضلالاً مبينًا ، بين طرفى الإفراط والتفريط ، وتتذبذب فيه بين التضييق والتشدد بدعوى الورع ، والوقوف المقدس عند عتبات السابقين وفتاواهم ، وبين التوسع والترخص بدعوى العصرنة ومواكبة التطور ، و« كلا طرفىْ قصد الأمور ذميم » كما يقول شاعرنا القديم .
« بيد أن التخوّف ، أو المبالغة فى التورّع قد أدى ـ فى كثير من الأحيان ـ إلى الانصراف عن النظر الفقهى الدقيق فى الفتوى ، وسلوك طريق سهل يريح من عناء البحث فى تكييف السؤال ، والتنقيب عن حُكْمِه ودليله ، وتنزيله على الواقع ، حتى صارت الفتوى فى قضايا المجتمع المعاصر ــ تحريمًا أو إباحةً ــ لا تكلف الباحث أكثر من العودة إلى ما قيل فى أشباهها ، من أقوال السابقين ولو لأدنى ملابسةٍ ، ولا سند للباحث إلاَّ بعض مشتركات ، أو أوجه شَبَهٍ ضعيفة ، لا تجعلُ من المسألة التى هى محل الاستفتاء ، والمسألة المقيس عليها قضيتين متماثلتين ، تنطبق عليهما القاعدة العقلية التى تقرر أن « حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد » وأصبح من المعتاد أن كثيرًا من الفتاوى التى تحتمل التيسير والتعسير ، يُفتَى فيها بالتعسير تورّعًـا ، وتحوطًـا ، ومـن بـاب متابعـة الخَلـف للسلف .. مع أن التعسير الذى يظنه المفتى إبراءً لذمته أمام الله تعالى ، هـو بعينه التعسير الذى نهى عنه النبى عليه الصلاة والسلام ، وحذر منه فى حديثه الشريف : « يسّروا ولا تعسّروا » ، وتوعّد من يشق على أمّته بالويل والثبور ، ودعا عليه فى الحديث الصحيح : « اللهم من وَلِىَ من أمر أمّتى شيئًا ، فشق عليهم ، فاشقق عليه » .
« وليس صحيحًا أن المشقة التى حذر منها الحديث الشريف قاصرة على من يشقّ على الناس فى أعمال الرزق والمعيشة ، بل هى تنطبق تمام الانطباق ــ ومن باب أولى ــ على كل من يشقّ عليهم بفتوى شرعية ترهقهم من أمرهم عسرًا ، أو توقعهم فى الحرج الذى جاءت الشريعة لرفعه وإزالته .
« ومما لا شك فيه أنه لا يوجد مشتغل بالإفتاء إلاّ ويحفظ عن ظهر قلب ما هو مُسَلَّمٌ عند الفقهاء جميعًا ، من أن الحكم يدور مع العلّة وجودًا وعدمًا ، فإن وُجِدت العلّة وُجِد الحكم ، وإن انتفت العلّة انتفى الحكم ، ورغم ذلك لازالت الفتاوى فى مسائل عدة تتذبذب بين الحِلّ والحرمة ، وتترك الناس فى حالة من الشعور المضطرب المتأرجح بين الطمأنينة والحرج ، خُذ مثلاً اقتناء التحف والمجسمات التى على شكل التماثيل ، أو التكسب من مهنة التصوير ، فى ظل ما شاهدناه بالأمس البعيد ونشاهده اليوم على شاشات التلفاز من تدمير آثار ذات قيمة تاريخية كبرى فى ميزان الفن المعاصر ، وكان تدميرها بفتاوى باسم الإسلام وشريعته ، ولم نسمع أن مجمعًا فقهيًّا عقد اجتماعًا دُعى فيه فقهاء العصر وشيوخ الفتوى فى عالمنا الإسلامى لبيان الحكم الشرعى فيما حدث ، وفى ظل متغيرات عالمية وأعراف استقرت على تخصيص كليات للآثار وللفنون الجميلة ولصناعة السياحة ، ولايزال المسلمون فى حيرة من أمرهم حيال هذه المجسمات : هل هى مجرد تُحف لا بأس من اقتنائها شرعًا ، أو هى أصنام وأوثان لا يجوز للمسلم أن يتعامل معها أو يمسّها بحال من الأحوال ؟! .. بل لا يزال بعض المعنيين بالإفتاء يصادرون على كل ذلك بالتحريم المطلق ، مع أن المقام مقام بحث وتنظير وتفتيش عن وجود العلّة أو غيابها ، وهو بحث يسبق بالضرورة مرحلة صدور الأحكام التى تصدر وكأنها أحكام تعبدية وأمرٌ أمَرنا به الشارع ، ولا نعقل لها معنى ، وليست من قبيل الأحكام التعليلية التى ترتبط بعللها وُجودًا وعدمًا .. وتحريم صناعة التماثيل فى صدر الإسلام ـ فى غالب الظن ـ إنما كان مُعلّلاً بما استقرت عليه عادة العرب فى ذلكم الوقت من عبادة الأصنام وصناعتها ، واتخاذها آلهة تُعبد من دون الله ، وكان من المتوقع ، بل من المطلوب من الشرع الحنيف أن يحرم اقتناءها وصناعتها سدًّا للذرائع وتجفيفًا لمنابع الشرك ، وحمايةً للوليد الجديد الذى هو « التوحيد » ، وإذا كان الأمر كذلك فما هى علّة التحريم الآن بعد أن استقر الإسلام ، وتغلغل « التوحيد » فى العقول والقلوب والمشاعر ، وتلاشت عبادة التماثيل عند المسلمين جميعًا !! ، ونحن نعلم أنه قد مضى على المسلمين الآن ما يقارب خمسة عشر قرنا هجريًّا من الزمان ، لم نسمع أو نقرأ أن مسلمًا واحدًا عكف على تمثال يعبده من دون الله ، ويتخذه له شريكًا ، فهذا أبعد شىء عن أى مسلم ينطق بالشهادتين ، بل هو المستحيل الذى تشهد له أدلة النقل ، فقد طمأننا النبى عليه الصلاة والسلام قبل أن يتركنا إلى الرفيق الأعلى ، وأقسم بالله على ذلك ، فقال فى حديث معجز ، رواه البخارى ومسلم عن عقبة بن عامر أن النبى عليه الصلاة والسلام خرج يومًا فصلى على أهل أُحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبـر فقال : « إنِّي فَرَطٌ لكُمْ ، وأَنَا شَهِيدٌ علَيْكُم ، وإنِّي واللَّهِ لَأَنْظُرُ إلى حَوْضِي الآنَ ، وإنِّي قدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأرْضِ ـ أوْ مَفَاتِيحَ الأرْضِ ـ وإنِّي واللَّهِ ما أخَافُ علَيْكُم أنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي ، ولَكِنِّي أخَافُ علَيْكُم أنْ تَنَافَسُوا فِيهَا » ، أى : الدنيا » .