من تراب الطريق (944).. لا أصل للخلافة في الإسلام ! (2)
بقلم: أ. رجائي عطية، نقيب المحامين
نشر بجريدة المال الاثنين 28/9/2020
وكان مدار خطبة عثمان بن عفان فور مبايعته، على فتنة الدنيا والوعد باتباع السنن واجتناب البدع وتهدئة النفوس من قبل ما تخافه، ومما قال في هذه الخطبة: « ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور. اعتبروا بمن مضى، ثم جدوا ولا تغفلوا فإنه لا يغفل عنكم. أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومتعوا بها طويلاً. ألم تلفظهم؟ ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها».
وقال في أوائل خطبه: « … إني قد حملت وقد قبلت، ألا وإني متبع ولست بمبتدع. ألا وإن لكم علىّ بعد كتاب الله عزّ وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: اتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم، وسن سنَّة أهل الخير فيما لم تسنّوا من ملأ، والكف عنكم إلاَّ فيما استوجبتم. ألا وإن الدنيا خَضِرة قد شهيت إلى الناس ومال إليها كثير منهم، فلا تركنوا إلى الدنيا ولا تثقوا بها فإنها ليست بثقة، واعلموا أنها غير تاركة إلاّ مّن تركها..».
أما علي بن أبي طالب، فقد بويع والمدينة ملأى بالثورة والثائرين، ومما جاء في خطبته يوم مبايعته وتوليه: « إنما أنا رجل منكم لي ما لكم وعلي ما عليكم، وقد فتح الله الباب بينكم وبين أهل القبلة وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، ولا يحمل هذا الأمر إلاَّ أهل الصبر والبصر والعلم بواقع الأمر، وإني حاملكم على منهج نبيكم، ومنفذ ما أمرت به إنْ استقمتم والله المستعان، فامضوا لما تؤمرون، وقفوا عند ما تنهون عنه، ولا تعجلوا في أمر حتى نبينه لكم. ألا وإن الله عالمٌ من فوق سمائه وعرشه أني كنت كارهًا للولاية حتى اجتمع رأيكم على ذلك.. ألا وإن من دخل ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله يقسم بينكم بالسوية، ولا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غدًا حُسْن الجزاء وأفضل الثواب ».
وحسبك أن تعرف أن الإمام علىّ قد استأنف في الناس سيرة عمر بن الخطاب ـ من حيث كانت قد انقطعت.
ولن تحتاج إلى عناء كبير أو قليل، لإدراك أن ما تلا زمن الراشدين، في الدولة الأموية، وفي الدولة العباسية والدول المتفرعة عنها أو الموازية لها، وفي الدولة العثمانية، لم يكن له علاقة في كثير أو قليل بالخلافة التي كانت في زمن الراشدين، حتى وصفها الأستاذ السنهوري مع تشيعه لنظام الخلافة، في رسالته الثانية سنة 1926 م عن « فقه الخلافة » ، بأنها كانت « خلافة ناقصة» ، لغيبة البيعة، وشيوع التوريث، وغياب الشورى، وحلول الاستبداد، ووصفها ابن خلدون في « مقدمة » تاريخه بأنها لم تكن خلافة خالصة.
ومع ذلك يبقى السؤال الذي يتعين الإجابة عليه بصدق وموضوعية: هل الخلافة بعامة، أصل أم لا من أصول الحكم في الإسلام ؟
من المؤكد المقطوع به، أن رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يستخلف أحدًا في حياته، ومن المؤكد المقطوع به أيضًا، أنه لاقى ربه دون أن يستخلف من بعده أحدًا، ولو فعل لانقطعت أي ادعاءات، ولانقطع أيضًا أي خلاف، فما كان لأحد، من المهاجرين أو الأنصار، أن يدّعي شيئًا لم يأمر به عليه الصلاة والسلام، أو يوصى به!.
وسيرة النبي عليه الصلاة والسلام تقطع بذلك وتؤكده، فقد خلت من أي أمر أو توصية بالخلافة، لا لأحدٍ بعينه، ولا بصفة عامة، وليس يخفى أن النبوة غير قابلة للتوريث أو الخلافة، فلا أحد أيًّا كان شأنه يمكن أن يخلف الرسول في نبوته، بل إن هذه النبوة أولى بعدم جواز التوريث من المال الذي صرف إليه البعض حديثه عليه الصلاة والسلام: « نحن الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» ـ وقد يُقال إن الشطر الأول من الحديث ينصرف إلى « النبوة» بالذات، بقوله عليه السلام: « نحن الأنبياء لا نورث»، وأن الشطر الثاني « ما تركناه صدقة» ينصرف إلى المال، وقد أخذ البعض الحديث كله على التعميم، في المال، وفي غير المال، بل وفي النبوة أولى، وهو ما يُروى من موقف الصحابي أبي هريرة ترشيدًا لمن تنازعوا على المال، حين ذهب إلى المسجد وأشار إلى المصلين والراكعين والساجدين والقائمين، قائلاً هذا هو ميراث رسول الله، من أخذه أخذ بحظًّ وافر.