من تراب الطريق ( 1251 ).. أنشودة الصبر وداعية السماء بلال بن رباح – أَحَدٌ أحد
بقلم الأستاذ: رجائي عطية نقيب المحامين رئيس اتحاد المحامين العرب
نشر بجريدة المال الثلاثاء 1/2/2022
ــــــ
بينما مكة لا يزال الظلام يرين عليها وعلى ما حولها ـ إلَّا من شعاع الضوء الهادى الذى طلع به محمد عليه الصلاة والسلام. فإن صدور قريش ملأها الضيق والشنآن من دعوته، ولا تجد سبيلًا لمقاومتها والكيد لها إلَّا طرقته..
يبلغ عقبة بن أبى معيط، أن صديقَه المشرك أمية بن خلف، قد صَبَأَ عبدُه الأسود بلال بن رباح، فلا يترك فرصة مداعبة صديقه فى منتداهم فيقول له ساخرًا: كيف يسخر من محمد، وينكر عليه دعوته، بينما عبدُه بلالٌ على دينه.. يختلف إلى محمد فى قائلة النهار أحيانًا، وفى ظلمة الليل آنا.
ما إن أفاق أمية بن خلف من وقع الصدمة ـ حتى انطلق إلى داره وكلمات استهزاء القرشيين تلاحقه وتقرع سمعه: «لئن لم تردع عبدك يا أمية فلسوف يندلع لهيب هذه الفتنة بين الموالى والعبيد، بعد أن أخذت سبيلها بين الأشراف!».
اقتحم أمية داره وهو يرغى ويزبد ويتوعد: ما نجوت إنْ نجا. ويبادر فينادى بلالًا فيأتى شاب فارع، قوى الجسم، شديد سواد البشرة، ما يكاد يقف أمام أمية حتى يبادره محنقًا والشرر يكاد يتطاير من عينيه.
أمية: أحقًّا ما بلغنى عنك، أنك تختلف ليل نهار إلى محمد، وآمنتَ بأوهامه وصبأت عن آلهة قريش والعرب؟!
بيد أنه لمفاجأته ـ سمع بلالًا يجيبه فى ثبات بأن محمدًا على الحق وإليه يدعو، وأنه بالفعل آمن برسالته وتابعه على الدين الذى أتاهم به.
انفجر غضب أمية، يقول لبلال متوعدًا: وتقولها فى وجهى يا عبد السوء؟! أما علمت أنك ملك يمينى، وعبدٌ من عبيدى، أملك روحك وعقلك وجوارحك؟
ولكن بلالًا يجيبه فى هدوء وثقة: أما أنى عبدك وأسيرك، فهذا ما لا أنكره عليك ولا أنكرته: لك علىَّ بدنى، ولا شأن لأحدٍ بخلجات نفسى. عقلى وقلبى لا سلطان لأحد عليهما..
اندفع أمية يأمر عبيده بأخذ هذا العبد الآبق الصابئ إلى بطحاء مكة، ليطرحوه فى الرمضاء تحت وهج الشمس، ويقيدوه بالأغلال، ويجلدوه بالسياط، ويذيقوه من العذاب ما لم يره أحد، لا يدعوه حتى يرجع عما هو فيه، أو يموت.
* * *
فى بطحاء مكة، وقت الظهيرة، بلال مسجى فى لهيب الشمس الحارقة، منزوع الثياب إلَّا ما يستر عورته.. يحيط به رجال أمية يعذبونه ويجلدونه ويضعون الصخور العظيمة على صدره، وأمية واقف يشرف عليهم. يقول لبلال: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد..
ولكنهم لا يسمعون من بلال من بين أناته المكبوتة، إلَّا نداءً أثيرًا طَفَق يردده: أحَدٌ أحَدٌ. أحَدٌ أحد..
* * *
فى هذا المشهد الفظيع، يتصادف مرور المتحنث ورقة بن نوفل. شيخ كبير قد طعن فى السن، وضعف بصره، ما يكاد يرى ما يفعلونه ببلال، ويسمع نداءه الأثير، حتى يقول له مشجعًا ـ فى عطف وحنان: نعم يا بلال، أحدٌ أحد، والله يا بلال. ثم يلتفت إلى أمية مؤنبًا وقائلًا: «أحلف بالله، لئن قتلتموه على هذا، لأتخذنه حنانًا، ولأجعلنَّ قبره موضع رحمة فأتبرك به وأستمطر عنده رحمة الله، وألوذ بجواره».
ولكن أمية لا يلقى لكلمات الشيخ بالًا، وينصرف إلى ما هو فيه من تعذيبٍ لم يره أحد من قبل، فلا تقابله إلَّا كلمات بلال: أحَدٌ أحد. أحَدٌ أحد.
* * *
بنفس بطحاء مكة بعد فترة، والمشهد جارٍ على ما هو عليه. يظهر أبو بكر فيقترب من أمية معاتبًا ولائمًا: «حتى متى يا أمية؟! ألَّا تتقى الله فيه؟!».
وفى صلف وغطرسة يرد أمية: ما لك وما أفعله بعبدى؟! إنه ملك يمينى، أفعل به ما أشاء.
ولكن أبا بكر لا يتركه، ويستأنف مقرعًا إياه: «أتقتلون رجلًا أن يقول ربى الله؟! لست والله أرى فيما أرى صنيع رجال!! أو تفترى بسلطانك ورجالك وجاهك على عبدٍ ضعيف، لا حول له ولا قوة؟!».
وفى غيظ ساخر، يرد أمية ساخرًا: أنت الذى أفسدته، فأنقذه مما ترى، دونك فاشتره وخلصه مما هو فيه إنْ كنت مشفقًا عليه!
ما إن سمع أبو بكر قالة أمية، حتى قَدَّمَ إليه ما يرضيه، فنادى أمية فى رجاله أطلقوا عبد السوء.
ولكن أبا بكر يقول له: كلنا لآدم، وآدم من تراب.
أمية: عجبًا لك يا ابن أبى قحافة.. فواللات والعزى لو أبيت أن تشتريه إلَّا بأوقية واحدة لبعته لك بها!
فيرد عليه أبو بكر: والله لو أبيتم إلَّا مائة أوقية لدفعتها لكم!!
ثم يقترب الصديق من بلال حانيًا مواسيًا، فيفك عنه أغلاله، ويرفع الصخور من على صدره، ويعينه على النهوض وهو يقول له: هلم يا بلال، قد والله وهبتك حريتك، فاعبد الله ما بدا لك..