من تراب الطريق (1234)
بقلم : الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين
نشر بجريدة المال الخميس 2/12/2021
ـــ
الإمام الطيب والقول الطيب (67)
القرآن وحقوق الإنسان
تقرير وضمان
ـــــــــ
اغتنم الإمام الطيب ، مناسبة الاحتفال بليلة القدر فى26 رمضان 1431 هـ / 5 سبتمبر 2010م ـ ليتحدث عن أحد الحقوق الهامة التى قررها القرآن للإنسان .
فالاحتفال بليلة القدر هو فى المقام الأول احتفال بالقرآن ، ففى ليلة القدر نزل القرآن الكريم ، وفى ذلك يقول رب العزة : « إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ » ( القدر 1 ـ 5 ) .
والاحتفال بالقرآن الكريم ، هو احتفال بكتاب أخرج الإنسان من الضلال إلى الهدى ، وأنشأ حضارة إنسانية هائلة ، سادت الدنيا ، وحمل للناس أغلى الإنجازات الحضارية .
ومن المحقق ، أنه بنزول القرآن الكريم أُعلنت لأول مرة حقوق الإنسان ، ولم تعرف الدنيا شيئًا عن هذه الحقوق ناهيك برعايتها ، قبل الإسلام . ولم يكن هناك وعى بالحقوق والحريات العامة ، لا بالمساواة بين الناس ، ولا بشىء من الحقوق التى تتفرع عن شجرة حقوق الإنسان .
ومن المعلوم أن حضارة اليونان فى ذلك الوقت كات تكرّس نظام الرّق ومبدأ الاستعباد ، وتبنَّى أفلاطون التفرقة بين الناس ، إلى أسياد وعبيد ، ودافع عن هذه الرؤية فى جمهوريته التى تُعد النموذج الأمثل للسياسة والحقوق فى المدينة الفاضلة .
ومن بعده جاء أرسطو ، فسار على درب أستاذه ، وأعلن أن الناس صنفان : صنف مخلوق للسيادة والرئاسة ، وآخر مخلوق للسخرة والطاعة ، وهذا الصنف الثانى ليس إلاّ « آلات » مثل آلات الحرث والرى ، والآلة لا حقوق لها ، كما نادى بأن تكون المرأة خادمة للرجل ، فى البيت والحقل والمتجر ، وليس لها محض أن تفكر فى المساواة بالرجل ، أو مشاركته فى المسئوليات العامة .
يقول الدكتور الطيب :
« فى هذا الوَسط الموبوء بالأمراض الاجتماعية والسياسية والإنسانية نزل القرآن الكريم ، ليحرر الإنسان من كل هذه القيود والمظالم ، وجهرَ النبى بحقوق الإنسان وبالمساواة بين بنى البشر ، وقرعَ أسماع الناس بقوله تعالى : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » (الحجرات 13) .
« ولأول مرّة سَمِع العرب والعجم بيان النبوة الحاسم : « الناس سواسية كأسنان المشط » ، « الناس رجلان ؛ رجل برٌّ تقىٌّ كريمٌ على الله ، وفاجرٌ شقى هيّن على الله ، والناس بنو آدم ، وخَلَقَ الله آدم من تراب » .
« ولم ينس وهو يودّع أمّته فى حجة الوداع أن يّذكّرهم بمبدأ المساواة بين الناس ، فقال فى بداية خطبته الخالدة : « أيها الناس ، إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، كلّكم لآدم ، وآدم من تراب ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ليس لعربىّ على عجمىّ ، ولا لأحمر على أبيض ـ فضلٌ إلاّ بالتقوى ، ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد ، ألا فليبلّغ الشاهد منكم الغائب » .
« كما سمع المجتمع العربى ـ ولأول مرة أيضًا ـ صيحة نبى الإسلام : « النساء شقائق الرجال » ، وقوله « ولو كنت مُفضِّلاً أحدًا لفضَّلت النساء » ، وتلا عليهم قوله تعالى : « وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا » ( النساء 19 ) .
« والقرآن هو الذى أوقف فوضى الزواج فى الجاهلية ، وهو الذى جعل المرأة ترث مع الرجل بعد أن كانت تُورث ضمن تركات الأموات ، وهو وإن كان قد جعل ميراث البنت على النصف من ميراث أخيها فى أربع حالات فقط ، فإن هناك أكثر من ثلاثين حالة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل أو أكثر منه ، بل هناك حالا ترث فيها المرأة ولا يرث الرجل .
« والقرآن هو الذى قرر حرية العقيدة ، ورفع الحجر عن العقل والإرادة ، وبلا حدود : « لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » ( البقرة 256 ) ،
« وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ » ( يونس 99 ) ، « لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ » ( الغاشية 22 ) ، « إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» ( الرعد 7 ) ، « إِنْ عَلَيْكَ إِلاّ الْبَلاغُ » ( الشورى 48 ) ، « وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ » ( الأنعام 35 ) ، « وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ » (هود 118) .
« والحضارة التى صنعها القرآن حضارة تعارف وتكامل بين البشر وقد سعد بها الإنسان فى الشرق والغرب على السواء ، ولم تكن ـ كما يُقال عنها زورًا وبُهتانًا ـ حضارة سيف ، أو حضارة حرب ، ولو أنصف المغرضون لقالوا إنها حضارة السلام بامتياز .
« ويكفينا شاهدًا على ذلك : أن كلمة السلام ومشتقاتها وردت فى القرآن الكريم إحدى وأربعين مرة ، بينما وردت كلمة حرب فى القرآن ثلاث مرات فقط .
« والقرآن ينكر تسلّط حضارة على أخرى أشد الإنكار ، ونحن المسلمين نعتقد أن العلاقة بين الحضارات إنما هى علاقة تعارف وتعاون وتكامل ، وأنها إن سارت فى اتجاه الصراع البائس المشئوم ؛ فإن النتيجة لن تكون أبدًا سيطرة حضارة على أخرى ، وسيادة ثقافة أو دين على سائر الثقافات والأديان ، وإنما المصير المحتوم حينئذ سيكون ـ لا محالة ـ ؛ إما إنهيار الحضارات المتغرطسة ، أو عودة البشرية كلها إلى حالة من الهمجيّة والفوضى ، ربما لا يَعرف التاريخ لها مثيلاً من قبل » .