من تراب الطريق (1232)
بقلم/الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين
من تراب الطريق (1232)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 30/11/2021
الإمام الطيب والقول الطيب(65)
الأزهر والمَحاضِرالشنقيطيّة
يبدو هذا العنوان غير مألوف فى العالم العربى ، والسبب أنه مُسَمّى فى موريتانيا الإسلامية ، لما يُعرف فيها بالمدرسة الشنقيطيَّة . وكان طبيعيًّا أن يختار الإمام الأكبر هذا الموضوع فى محاضرته التى أُلقيت فى قصر المؤتمرات بالعاصمة الموريتانية « نواكشوط » فى 10 رجب 1439هـ / 19 مارس 2018 م .
مدخله إلى العلاقة بين الأزهر والمدرسة الشنقيطيَّة ، قضايا الغلو والعنف والإرهاب المسلح التى باتت تهدد العالم الإسلامى نفسه قبل غيره ، ومحاولة البعض إلقاء المسئولية عنها على الإسلام .
وأفضل ما يمكن أن نقدمه لأمتنا ـ فيما قال ـ هو تعميق الصلات العلمية والأكاديمية بين علماء الأزهر وعلماء الغرب الإسلامى ، وهو ما تصلح للقيـام بأعبائه : المدرسة الشنقيطيّة ، بما لها من مكانة ومن خصائص علمية وتعليمية تميّزت بها .
أما مرجع هذا التميّز ، فلأسباب كثيرة من أهمها محافظة العلماء على تراث الأمة الإسلامية حفظًا وروايةً ، وشرحًا وتعليقًا ، وهو ما يتسق مع رسالة الأزهر والمنهج الذى أخذ نفسه به منذ أكثر من ألف عام ، وأبرز سمات هذا « المنهج » هو الجمع بين علوم العقل والنقل والذوق . وهذا المنهج التوفيقى الذى تصالح مع المعقول والمنقول ، يعكس طبيعة هذا التراث المتعدد الأبعاد منذ نشأته وعبر تطوره على أيدى كبار العلماء وعظماء المجتهدين ، وقد تشرب المسلمون من ينابيع هؤلاء الأعلام كالعسل المصفى ، ويحسب للأزهر الشريف أنه كان دومًا الحاضن والحافظ لهذا التراث بكل أبعاده ، فضلاً عن اضطلاعه بإعادة الحياة إلى هذا التراث ، أو كما يقول أستاذنا الكبير ـ والوصف للإمام الطيب ـ الدكتور زكى نجيب محمود ، حيث قال رحمه الله : « جاءت الحضارة الإسلامية ، وكلُّ مسلم يعرف ما هى مصر بالنسبة للحضارة الإسلامية ، هى التى حفظت التراث الإسلامى كلّه ، ولولا ما عمله الأزهر فى القرون: الثانى عشر ، والثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر ، هذه القرون الأربعة الميلادية ، لما كان هنالك ما يُسمّى الآن بالتراث العربى الإسلامى ، وكنّا أين نجده والتتار أحرقوه من هنا ـ أى من الشرق ـ وفى الأندلس ضاع من هناك على أيدى الغزاة ، لكن انكبّ الأزهر على التجميع ، قبل أن يضيع فى الهواء ، فجُمِّعَ ، ولكن أىُّ تجميعٍ ؟ تجميعٌ فيه الإيجابية ، وفيه الإبداع ، وفيه الهدف .
وإذًا فحين حانت فرصة التفرُّد بريادة التراث من جديد ، لم ينهج الأزهر منهج الانتقاء والإقصاء والفرز بين علوم يستبقيها ويسعى فى نشرها ، وأخرى يُعتَّمُ عليها ويعرِّضها للعوامل البِلَى والهلاك »
وهذه الأبعاد الثلاثة التى ألمح إليها الإمام الأكبر ، والتى هى النص والعقل والذوق ، قد تعانقت وتمازجت فى منهاج التعليم فى الأزهر حيث تلاشت بينها الحواجز المصطنعة ، ووقر فى أذهان طلاب الأزهر وعلمائه أن الاختلافات العقدية والفقهية والذوقية هى اختلافات مشروعة ، تتصالح فى رحابها خصائص الإسلام كدين للعالمين يمتد فى المكان وفى الزمان .
ولم تُمتَحن الأمة الإسلامية قديمًا وحديثً بالغلو والتطرف وما صحبهما من فرقة وتمزّق ، إلاَّ حينما فرطت فى هذا المنهج المتكامل ، وغابت عنها الطبيعة الإمتزاجية فى هذا التراث ، والتى سرِّ بقائه وخلوده وصموده سندًا لوحدة الأمة الإسلامية ، وظهيرًا لتماسكها .