من تراب الطريق (1213).. الإمام الطيب والقول الطيب (46)
التواصل والتكامل بين الأزهر والزيتونة
نشر بجريدة المال الأربعاء 3/11/2021
ــ
بقلم : رجائى عطية
التواصل والتكامل
بين الأزهر والزيتونة
توثقت العُرى والأواصر العلمية والثقافية والمنهجية ، توثقًا متينًا ، بين مؤسسة الأزهر الشريف ومؤسسة الزيتونة ، حتى صار من الشائع وصف الزيتونة بأنها « أزهر تونس » ، فيما يقول الأستاذ الكبير محمد الفاضل بن عاشور ، وأن الأزهر والزيتونة صنوان ، وأن الزيتونيين أزهريين ، فيما يقول علماء الزيتونة أنفسهم اعتزازًا بالأزهر وشيوخه وطلابه .
وكلام الأستاذ الفاضل ، فيما يبدى الإمام الطيب ، لم يصدر من مجرد عاطفة جياشة ، ولا هو صدى لظروف أو مناسبات ، بل صدر عن تجربة عميقة لمفكر دقيق ، وعالم جليل ، خبر المؤسستين ، وسبر ما يلقى فيهما من علوم ومعارف وتراث . ومن ثم كان لزامًا أن يتآزرا معًا فى خطة كفاح متين للدفاع عن الإسلام ، عقيدة وشريعة وأوطانًا .
فى ذلك يقول « أندريه جوليان » فى كتابه : « القومية الإسلامية والسيـادة الفرنسية » ، إن الزيتونة شكلت المركز الذى عمَّمَ رؤية الأزهر ومنهجه فى الإصلاح فى كل أرجاء المغرب العربى الإسلامى .
وكان طبيعيًّا أن يعتمد الأستاذ الإمام محمد عبده ، على العلامة الطاهر بـن عاشـور « شيخ الزيتونة » ، ليكون سفيرًا لدعوة الأزهر الإصلاحية فى جامعة الزيتونة بتونس ، وقد تأثر بهذه الدعوى ـ لاحقًا ـ عبد الحميد بن باديس الذى تتلمذ على شيوخ وعلماء الزيتونة ، وفى مقدمتهم الأستاذ الطاهر بن عاشور .
لا يمكن فيما يبدى مؤرخون ، التأريخ للزيتونة ودورها الإصلاحى فى المغرب العربى ، بمعزل عن النهضة الفكرية والعقلية التى اضطلع بها فى مصر رواد الإصلاح : الأفغانى ، ومحمد عبده ومدرسته وتلاميذه ، وكلهم كانوا يتطلعون إلى تحرير العقل من التغليق ومن غشاوة القرون المتأخرة ، بالعودة إلى منابعه الأولى التى طمستها بعض النزعات التى سادت العالم الإسلامى فى تلك العصور .
ويحدثنا الإمام الأكمبر ، أحمد الطيب ، فى حديث ذى شجون , فعبر عما بين الأزهر والزيتونة من وشائج القربى ، لثلاثة محاور : النشاة والتأسيس ، والتواصل العلمى ، وجامعة الأزهر .
أولا : النشأة والتأسيس
تأسس جامع الزيتونة عام 116 هـ 734 م ، بناه عبيد الله بن الحبحاب السلولى والى مصر وعامل بنى أمية عليها ، ثم أُعيد بناؤه فى عصر دولة الأغالبة ، فهو بالميلاد الزمنى أقدم الجامعات الإسلامية فى العالم ، وكان منذ إنشائه مركز إفتاء ، ومجلس تعليم ، ورغم محاولات كثيرة لإصلاح الزيتونة وتطويره ، إلاَّ أن الدراسة فية ظلت تجرى على الطريقة القديمة حتى صدر فى 4 صفر سنة 1370 هـ ( 1950 م ) تنظيم جديد يستهدف إصلاح الأوضاع التعليمية بالزيتونة وفق النظام الأزهرى الذى استقر فى مصر بعد إصلاحات الشيخ محمد مصطفى المراغى .
أما الأزهر فرغم أنه أنشئ فى تاريخ لاحق , إلاَّ أنه استطاع عبر تاريخه الطويل أن يحتل المكانة الأولى باعتباره أهم جامعة على مستوى العالم فى القدم والاستمرارية وقوة التأثير .. هذا ما يقوله التاريخ الصامت عن نشأة الأزهر والزيتونة ، ولكن عالم الزيتونة « الفاضل بن عاشور » له قراءة أخرى تُعيد تركيب المشهد التاريخى ليكون أكثر إلتصاقًا بالرحم العلمى الذى جعل الرابطة من أجل الدين والوطن هى الوشيجة الأولى بين هذين المعهدين عبر التاريخ الثقافى للإسلام ، يقول الفاضل بن عاشور : « لنقف على جامع الزيتونة يوم كان أساسه يرسو ، ودعائمه تعلو فى أوائل القرن الثانى للهجرة على يد بانيه عبيد الله بن الحبحاب السلولى ، وقد كان واليًا على مصر ، ومنها قدم إلى تونس ، بعد أن استخلف ابنه أبا القاسم على مصر ، وإذا كانت القاهرة يومئذ لم تنشأ ، وجامعها الأزهر لما يحدث ، فإن مدينة الفسطاط التى هى أم القاهرة قد كانت دار الحبحاب ، وجامعها ، جامع عمرو ( بن العاص ) ، الذى هو أبو الجامع الأزهر ؛ قد كان ابن الحبحاب إمام محرابة وخطيـب منبـره ، فلا ضير أن ابن الحبحاب كان واقفًا على تخطيط جامع الزيتونة بتونس ، وفى ذهنه صورة جامع الفسطاط ، وفى قلبه حنين إليه واهتمام به ، وحنين واهتمام بابنه أبى القاسم ، وقد خلفه فيه ، ولعل ذرات من الرمال التى كانت بين مصر القديمة وعين شمس ، حيث بُنيت مدينة القاهرة فيما بعد ، لم تزل عالقة بأردان فتى غسان من حيث لا يأبه لها ، فتساقطت فى عمق الأساس ، وبقيت هنالك تصل أرض القاهرة بأساس جامع الزيتونة ، وتخلط التربة التى بُنى عليها الأساسان : أساس الزيتونة ، وأساس الأزهر ، من قبل أن يبنى الأزهر بمائتى سنة ، وكذلك تصرمت السنون التى خلت بعد ذلك اليوم ، وكأنها تهيئ بروز هذا المعنى من التآخى فى الهيكليْن ، بعد أن استقر فى الأساسيْن ، فكانت صحبة على بن زياد التونسى لليث بن سعد ، وروايته عنه بمصر ، ثم انتصابه بجامع الزيتونة محَدّثًا ومدرسًا فى منتصف القرن الثانى الهجرى حلقة أولى فى سلسلة من الإتصالات العلمية ظهرت فى مصر القديمة ، ثم امتدت إلى القاهرة وأزهرها ، وارتبطت بها حلقات كان منها ما هو أوضح إشعاعًا وأتم ظهورًا » ( فى علماء تونس والشمال الأفريقى العربى , وعلماء الزيتونة ) , « وأخذ هؤلاء وغيرهم من أهل القرن الثالث الهجرى ؛ الذين أخذوا فى مصر عن ابن عبد الحكم , ويونس بن عبد الأعلى , وابن الموَّاز , على ما فصله القاضى عياض فى « المدارك » .