من تراب الطريق (1206)
الإمام الطيب والقول الطيب (39) تغيير المحاور المركزية للتراث وفقاً لنظرية« التراث والتجديد »
نشر بجريدة المال الاثنين 25/10/2021
ـــ
بقلم: الأستاذ/ رجائى عطية نقيب المحامين
يتقدم هذا الفصل من أبعاد ثلاثة لا يقع خلاف على عناوينها ـ يتقدم إلى مضامين تثير قدرًا هائلاً من التساؤلات بل والتحفظات !
الأبعاد الثلاثة للتغيير فى عرف النظرية : الأول التحرر من كل أشكال الاستعمار . والثانى التخلف ، سواء على المستوى المادى المتمثل فى الجهل والفقر المرض والأبنية ، أو على المستوى المعنوى المتمثل فى تسلط الأسطورة والخرافة ، والانفعال والخوف ، والاستكانة والقضاء والقدر ، ومهمة التجديد إسقاط مفاهيم التخلف والتنمية على مقولات التراث القديم . والثالث التقدم ضد الركود ، ويُقصد بالركود اجترار القديم ، أو الاستيراد من فكر الغرب ، والعلاج المحتوم فيما يرى صاحب النظرية هو « حل طلاسم الماضى مرة واحدة إلى الأبد » .
وهذه العبارة تحتاج إلى وقفة طويلة ، وتمعن بصير ، فى مقصود ومراد أن يكون حل طلاسم الماضى « مرة واحدة » و« إلى الأبد » !!!
ظنى الشخصى أن هذه عبارة بالغة الخطورة فى صياغتها وفى مقصدها . ولن تحتاج إلى جهد كبير لاستخلاص غاية عبارتى : « مرة واحدة » و« إلى الأبد » !!! ألا وهو إسقاط ما يراد إسقاطه تمامًا من التراث دفعة واحدة وإلى الأبد !!!
وقد تعلق بهذا العلاج الذى يتقدم به صاحب نظرية « التراث والتجديد » ، بوصفات مساعدة لخصها لنا فضيلة الإمام الأكبر :
ـ « فك أسرار « الموروث » حتى لا تعود إلى الظهور .. على السطح أو القاع » .
ـ « أن الواقع لن يتغير ما لم يتم تغيير جذور التخلف كالخرافة ، والأسطورة ، والانفعال ، والتأليه » .
ـ « مهمة التراث والتجديد : هى التحرر من السلطة بكل أنواعها .. سلطة الماضى ، وسلطة الموروث ، وتحرير وجداننا المعاصر من طاعة السلطة : سواء كانت سلطة الموروث ، أو سلطة المنقول » .
ولا تخطئ العين هنا ، فيما ينبه فضيلة الدكتور الطيب ، الاستعمال المقصود لاصطلاحات مفتوحة ، مثل : الموروث ، الأسطورة ، والتأليه ، سلطة المنقول ، طلاسم الماضى وأسراره .
والذى يغلب على الظن ، ولفظ الظن هنا تأدبًا ، أنه توجد ها هنا عناية بالغة فى انتفاء هذه المصطلحات ، وتوظيفها فى إسقاط ما يراد إسقاطه من تحطيم الحواجز وتداخل الحدود بين أصول التراث وتراث الأصول !!! وظنى أن المعنى واضح مفهوم !!!
وهنا يطرح المشروع نصًّا كاشفًا عن اتجاه خطير ، فيقول :
« ابتداءً من علم أصول الدين الذى يعطى الجماهير الأسس النظرية العامة التى تحدد تصوراتنا للكون ، وابتداءً من إعادة بناء الأصول تتغير أشكال الفروع بطبيعتها : الانتقال مثلاً من العقل إلى الطبيعة ، ومن الروح إلى المادة ، ومن الله إلى العالم .. ومن وحدة العقيدة إلى وحدة السلوك ! » .
والنص بوضوحه وتعميمه ، لا يحتاج إلى تعليق !
وإذن فإن عملية التجديد فى مفهوم ذلك المشروع ، تعتمد على ما يسميه « تغيير المحاور المركزية » التى يرتكز عليها التراث ، بمعنى : أن التجديد يبدأ « بتعديل هذه المحاور ( المركزية ) وتغيير اتجاهاتها ومراكزها .. وقد يكون لنفس المحور أسماء عديدة ، وقد تنتج عنه محاور أخرى متداخلة معه » .
فمثلاً إذا كان التراث القديم يتمركز حول « الله » ، فالذى يجب أن يحدث الآن هو التمركز حول « الإنسان » ، وذلك عن طريق الطرف الآخر من الوحى ، لأن الوحى هو خطاب الله للإنسان .
والأولوية فى التجديد للوحى ، بمعنى مخاطبة الإنسان لا مخاطبة الله .. أو كما يقول صاحب المشروع : علم الإنسان Anthropolgy وليس علم الله Theology .
وبصراحة ، وبلا مواربة ، فإن نظرية « التراث والتجديد » لا تكتفى « باستئصال » المصدر الإلهى من عملية الخطاب ، بل تشطح ـ عبر لا معقول آخر ـ إلى تحويل مفهوم « الله » من معناه المعروف للقاصى والدانى ، إلى معنى غريب ، يقول فيه صاحب النظرية : « والله هو بُعْدُ الشمول والعموم فى الحياة الإنسانية الذى يمكن على أساسه التعامل مع الآخرين على قدم المساواة بضمان وجود معيار شامل للحكم ، ومقياس عام للسلوك ، وقد تم ذلك فى الغرب إبان عصر النهضة فى القرن السادس عشر » .
إن عقلاً غربيًّا واحدًا ، لم يقع فى هذا الخلط « اللا معقول » ، وإن العقل الغربى ظل رغم كل شىء واعيًا بالفروق بين المفاهيم الدينية والمفاهيم الأخرى .
ويتساءل فضيلة الإمام الأكبر ، ونتساءل معه : ما مقصود « الشمول والعموم فى الحياة الإنسانية » كمحور جديد متغير بدل محور « الله » فى التراث القديم ؟!
وأمثلة أخرى يضربها صاحب « التراث والتجديد » كنموذج لتغيير المحاور ( المركزية ) فى التراث ..
كالانتقال من الله إلى الطبيعة , أو من الله إلى الشعب ، ومن الأخرويات إلى الدنيويات ، ومن تاريخ الأنبياء والرسل فى الماضى إلى أعمال القادة والأبطال فى الحاضر ، وإلى حد القول بأن هدف قصص الأنبياء فى « الرافد الدينى » ( ؟!!! ) هو فقط إعطاء نموذج للبطولة للثقافة الوطنية ، فضلاً عن أن نماذج الماضى قد لا تكون ـ هكذا ! ـ واقعًا بل خيالاً ، وليست هدفًا فى ذاته .
ولست أرى حاجة إلى تفصيل ما تحدث فيه مشروع التراث والتجديد ، عن الإيمان والإلحاد ، أو نفى تأثير العقائد فى النفوس والسلوك وقصره على الحياة العملية والواقع فقط ، أو قوله إنه « ليس للعقائد صدق داخلى فى ذاتها , بل صدقها هو مدى أثرها في الحياة العملية وتغييرها للواقع ! » , أو مفهوم الإلحاد فى فلسفة هذا المشروع ، أو إقدامه على تفريغ الإلحاد من معناه العقدى ونسبته إلى مقياس عملى ، وتقريره أنه « وإن كان إنكارًا لأصول الدين , إلاَّ أنه لا يعتبر إلحادًا إذا كان منبعثًا من عقلية مؤثرة فى الواقع !!! » , ولا ما طوى عليه المشروع من تقطيع أوصال التراث بمتناقضات حادة عن أقدس المقدسات فيه ، بما يندرج فى الطعن فى الذات الإلهية بدعوى أنها غير متصورة فى المنطق ، ولا يمكن التعبير عنها فى اللغة ، فقد بلغ هذا اللغط مداه ، وتقطعت إزاءه كل أحبال الصبر !!!