من تراب الطريق (1205)
الإمام الطيب والقول الطيب (38) مآخذ حقيقة على تلك النظرية منهجًا وأسلوبًا
نشر بجريدة المال الأحد 24/10/2021
ـــ
بقلم : الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يذكر فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب ، بأن تلك النظرية قد هجرت ضوابط البحث العلمى فى أخطر قضية تمس حياة المسلمين ، ولم تفرَّق بين الأصول والثوابت ، وبين المتغيرات ، ولم تستثن ـ حتى ! ـ « أصول التراث » من تحمل مسئولية تخلف المسلمين ، وأطلقت العنان للقول ـ صراحة أو ضمنًا ـ بأن الإيمان بالقضاء والقدر ، والثنائية الفاصلة بين الله والعالم ، والإيمان بالبعث ، هى العلل الأولى والجراثيم الحقيقية لما أسماه الأمراض المعاصرة فى المجتمع الإسلامى .
وشاءت هذه النظرية إزالة الحدود فى خطة التجديد بين الأصول كثوابت لا تقبل المساومة ولا التأويل ، ولا الالتفاف عليها ، وبين رؤى شائهة وتفسيرات مغشوشة لأمراض طفيلية « لملصقات » تتعرض لها كل الأديان ، لا هى من الإسلام ، ولا هى من تراثه ، ولا علاقة لهذه « الملصقات » بالمصدر الأصلى للفكر أو الفلسفة أو الدين .
والخلط بين « الملصقات » التى ليست من الدين والتى لم ينج منها دين ، وبين الإسلام وتراثه الحقيقى ، ناهيك عن أصوله وثوابته ، هو خلط غير مغفور ، ولا يشفع له ـ حتى ! ـ الإهمال غير المقصود أو غير المتفطن ، لأن « التنحية » واجب بديهى وأولى قبل النظر فى التراث الحقيقى ، أصولاً وفروعًا ، ثوابت ومتغيرات ـ واعتبار « الملصقات » من الدين لتبرير إهالة التراب على الدين ، لا يتفق مع المنهج العلمى ، ولا مع أصول الاستدلال ، ولا مع ما يجب من حسن النوايا والمقاصد !
وقد كان على صاحب هذه النظرية ـ فيما أبدى الدكتور الطيب ـ أن يتلافى هذا الخلط ، بين مبادئ التراث وقيمه ، وبين « الملصقات » وبعض السلوكيات المنحرفة عن التراث ، وأن يناقش المفاهيم ويحاكمها فى إطارها المعرفى والقيَمى كما هى مطروحة فى التراث نفسه ، لا فيما يلتصق خطأً به أو ينبو فى السلوك عنه ، وهو خلط يجاوز المنهج العلمى إلى ضلال النتائج التى يخلص إليها .
كما أن صاحب هذه النظرية ، لم يشأ أن يفرق بين ما هو أصيل وصحيح ومطلوب ومن ثم يجب المحافظة عليه ، وبين ما هو طفيلى أو زائف أو خاطئ ومطلوب مواجهته والقضاء عليه فى تجديد التراث .
والسبب فيما أبدى الدكتور الطيب ، أن سيادته لم ير فى التراث القديم إلاَّ سلوكيات معاصرة رديئة ، ثم راح يحاكم بها التراث نفسه ، فصادر بذلك على المطلوب ، وليس استدلالاً عليه ، أو على حد التعبير المعاصر وضع العربة أمام الحصان !!
ما كان هذا ليكون ، اللهم إلا إذا اعتبر « مشروع التجديد » أن المحتوى الداخلى للتراث كله ، ليس إلاَّ السلبية والنفاق والخنوع !!
هذا ، بلا مواربة أو تخفيف ، هو رأس المسألة ومحل النزاع الذى نَبَّه إليه صراحةً فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب .
المغالطات , والمفاهيم الصحيحة
هناك فروق لا بد من التفطن إليها للفرز الواجب بين الصحيح والمغلوط .
التفرقة ـ مثلاً ـ بين القضاء والقدر كأصل من أصول الإيمان فى الإسلام ، وبين مفهوم العجز والكسل والتواكل ..
التفرقة بين الإيمان بالبعث ، وبين أمراض الازدواجية فى المجتمعات ..
التفرقة بين نظام الشورى والخلافة فى الإسلام ، وبين مداهنة البعض ونفاقهم للحكام ..
وإذا كنا لسنا بحاجة للدفاع التحليلى عن كل علم من علومنا التى جرى الافتئات عليها فى مشروع « التراث والتجديد » ، فإن المفاجأة أن صاحب المشروع قد أنصف التراث من نفسه فى موضع آخر ، فيما يبدو نظرتين متناقضتين ، وبرز ذلك حين تصدى لضرورة تحجيم الغرب ورده إلى حدوده الطبيعية والقضاء على أسطورة عالميته ، وبيان محليته مثل أى تراث آخر ، فأبدى أن فترة تلقينا العلم عن الغرب زيادة على قرنين ، قد طالت أكثر مما ينبغى بالمقارنة إلى الفترة التى تعلم فيها أسلافنا ومفكرونا من الثقافات المجاورة ، مبديًا أنه ما إن أتى القرن الثالث ( الهجرى ) حتى ظهر الكندى ـ أول الحكماء ـ بادئًا علوم الحكمة ؛ ومضيفًا أن التراث الغربى مرتبط أشد الارتباط بالوعى الأوروبى ، ولا يعبر إلاَّ عنه ، آخِذًا على الغرب أنهم حين يعودون هناك إلى أصوله لا يرون إلاَّ ثلاثة لا رابع لها هى : الأصل اليونانى ، والأصل اليهودى المسيحى ، والبيئة الأوروبية نفسها .
ويبدو أن اختزال الوعى الأوروبى فى هذه الأصول الثلاثة ، قد ساءه وأشعره بتنكر الأوروبيين للإسلام وأثره فى نهضتهم ، وأثر حضارته فى حضارتهم ، فطفق يتساءل فى مرارة : « … وكأن الحضارة الإسلامية ـ بعد ترجمتها إلى اللاتينية ـ لم تكن أحد روافد النهضة الأوروبية الحديثة والفلسفات العقلية ، وكأن الرُّشَدية اللاتينية لم تساهم فى نشأة العلم الحديث فى الغرب » ؟! .
فإذا صَحَّ ـ جدلاً ـ ما ألصقه سيادته بالتراث الإسلامى من المعايب التى سلف بيانها ، وأنه لم ينتج سوى مجتمع عاجز سلبى منافق ، مبتلع وممحوق ومحاصر على حد تعبيره ، فكيف غَدَا عنصرًا مكونًا من عناصر الحضارة الغربية ، ورافدًا من روافدها فى إبداع الفلسفة والعلم ؟!
وترى صاحب نظرية « التراث والتجديد » يعود فى موضع آخر ، بعد هجومه الحاد على علمائنا وفقهائنا ، وإهالة التراب عليهم ، يعود فيبدى دفاعًا جادًّا عن الفقهاء والمتكلمين بل والصوفية ، وهو يرد على محاولة بعض المستشرقين تفريغ تراثنا من كل عناصر الإبداع والابتكار وحصرها فى النقل والتقليد ، فيبدى أن كلاًّ منهم كان مسئولاً فكريًّا وحضاريًّا عن أعمال سابقيه ، فطوَّرَها ناقدًا ومغيرًا ومكملاً ، بل إن كل عالم من علماء أصول الدين أو أصول الفقه كان ـ بنص عبارته ـ يضع العلم ويعيد تأسيسه ، ولم يكن موقف علماء الأصول من بعضهم البعض موقف الشرح والعرض ، بل كان موقف الند للند : الحوار ، والجدل ، والنقاش ، والنقد ، والتفنيد ، والهدم وإعادة البناء .. بل وكانت الشروح فى عصر الشروح والملخصات ـ زيادة على القديم ، وكان التصدى للأبنية القديمة « عملاً إيجابيًّا » ، وأن مؤلفات أصول الفقه « أبنية عقلية خالصة ، ومناهج تاريخية ولغوية وعقلية لا شأن لها بالقائلين بها ، بل هى تعبير عن اتساق عقلية خالصة ، وكأنها موضوعة لعقل كلَّى شامل » .. ووصف فقهاءنا فى مواضع أخرى بأنهم « القيَّمون على التراث ، وحماته من الدخلاء ، وحارسو الشرع ، والمدافعون عن مصالح الأمة » ، ويصفنا فى موضع آخر بأننا : « كنا صناع حضارة ، ومعلمى البشرية ، ومصدر العلم والعرفان .. أننا لسنا نَقَلَة علوم لكننا مبدعو علوم » .