من تراب الطريق (1197)

الإمام الطيب والقول الطيب (30)

نشر بجريدة المال الاثنين 11/10/2021
ـــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ : رجائى عطية

الإمام الطيب
والقول الطيب
(30)
ــــ
يتصل بموضوع التجديد ومفهومه بالمجلد الأول للقول الطيب ــ كتاب قيم آخر أصدره الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب بعنوان : التراث والتجديد :« منافشة وردود », وهو كتاب غير كبير الحجم , ولكنه مركَّز عميقٌ أشد العمق , يتناول قضية التراث والتجديد من جوانب متعددة , يجمع بينها صفاء الرؤية , وقوة الحجة , واستقامة المقصد .
وقد اختارت دار المعارف لتصديره عبارة شافية للإمام جاءت بالكتاب تقول : « إن تجديد التراث الإسلامى لا يحسنه إلاَّ عالم ثابت القدمين فى دراسته المنقول والمعقول , فاهم لطبيعة التراث ولطبيعة المناهج وأدوات التحصيل الفكرى المستخدمة فى البحث والتقصى » .

طليعة الكتاب

يستعيد الدكتور الطيب بعض ذكرياته فى ستينيات القرن الماضى , إبان أن كان طالبًا بالمعهد الدينى , وعلى وشك الانتهاء من دراسته الثانوية بالأزهر , وعلى أعتاب الجامعة , كيف كانت مطبوعات وسلسلات الفلسفة الماركسية والاشتراكية العلمية تغرق الدنيا , وكيف فرضت الوجاهة العلمية والثقافية آنذاك على بعض الطلاب النابهين ـ أن تلهج ألسنتهم بأسماء أساطير الفلسفة اللينينية والماركسية والتروتسكية ( تيار شيوعى وضعه ليون تروتسكى وينسب إليه ) , وأن يتحدثوا فى الفروق الدقيقة بين هذه المذاهب , وبدا للبعض أن المعاصرة والطموح للتميز والوجاهة ـ تقتضيان اقتناء بعض مؤلفات ماركس وانجلز ولينين وغيرهم , وقراءتها وتسريح النظر فيها , واتخاذها « مادة » للمناقشة والمحاورة , والمباهاة أحيانًا .
وفى تلك الفترة لم تكن الفلسفة الماركسية هى التيار الوحيد الضاغط على الشباب وعقولهم , فقد كانت هناك مدارس أخرى للفلسفة العلمية , كالوضعية المنطقية , والفلسفة الوجودية , وغيرهما من المدارس التى كانت تلفت نظر الطلاب المتعطشين إلى البحث عن الجديد خارج التراث .
وكانت حركة التأليف والنشر , تغرى القراء والمثقفين , لميل الدولة اقتصاديًّا آنذاك للمذهب الاشتراكى , بهذا الاتجاه , وبالإعلاء من قدره , كذلك كانت حركة الثقافة والفكر والفن والأدب تنحو فى توجهها العام إلى تجليات المذهب الاشتراكى الفلسفية والاقتصادية والاجتماعية والفنية .
على أن تأثير المعسكر الاشتراكى بلغ فى ذلك الوقت مبلغ التدخل المباشر فى المؤسسات الدينية وتقييم أدائها ورصد مدى ملاءمتها للتيار الاشتراكى الذى يمثل آنذاك التوجه الاقتصادى والثقافى للدولة , حتى إن وزيرًا للأوقاف وكان أحد كبار أساتذة الأزهر , قد نُحى من منصبه بتوجيه من المعسكر الاشتراكى رغم نشاطه وتميزه العلمى ومناقبه ، فضلاً عن جمعه بين الثقافة الأزهرية العميقة والثقافة الأوروبية الحديثة .
ولم يعد خافيًا فيما عُرِفَ لاحقًا ـ أن المذهب الاشتراكى وإن كان مذهبًا اقتصاديًّا بحتًا فى تطبيقاته العملية , إلاَّ أن لجذوره الفلسفية والأيديولوجية فى بلاد المنبع ـ موقفًا مناهضًا للدين , ولم يكن من اليسير متابعته دون أن ينعكس « التهوين » من شان الدين فى نفوس الناس , وكان لذلك تأثيره السلبى ـ غير المباشر ـ على الأزهر والمؤسسات الدينية الأخرى فى مصر , حتى تحدث تقرير بعثه الأزهر إلى إندونيسيا والملايو والفلبين فى يناير/فبراير 1961 , برئاسة الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر , وبصحبته الدكتور محمد البهى المدير العام ـ آنذاك ـ للثقافة الإسلامية , بما ينبئ بالشكوى من سحب البساط من الأزهر وعلمائه , وإحالة سلطاته ـ ودوره بالتبعية ـ إلى جهات بعيدة كل البعد عن العمل الإسلامى , حتى إن بعثة دُفَِعت للذهاب قبل وفد الأزهر ـ لتوحى لدى الجهات الرسمية فى إندونيسيا أن رسالة الأزهر باتت مقصورةً على العبادة فقط , وأن المؤتمر الإسلامى ـ فى وضعه الجديد ـ قد أخذ الجانب الاجتماعى من رسالة الأزهر , وأنه من ثم هو المنوط به الربط الثقافى الروحى بين مصر وبلاد العالم الإسلامى الأخرى , وأن أى معونات ثقافية فى صورة كتب أو مدرسين أو طلاب ـ يجب أن تُوَجه إلى هذا المؤتمر الإسلامى وحده .
على أن الشيخ الجليل محمود شلتوت , لم يتوان فى إعداد تقرير إلى الرئيس جمال عبد الناصر , عن بيان عدم صواب ما حدث , وعدم اتساقه مع ما يجب أن يُحفظ من مكانة للأزهر ورسالته .
ويعتقد الدكتور الطيب أن إقصاء الأزهر لم يكن سهلاً على نفوس المسئولين , ولكنه كان فى أغلب الظن أشبه باعتبارات المواءمة التى تفرضها ضرورات التحول السياسى والاقتصادى.
وكان من نصيب طلاب الأزهر آنذاك ـ فيما أبدى ـ أن يعيشوا تلك الحقبة التى هبت عليهم فيها الرياح الثقافية العاتية القادمة من شرق أوروبا وغربها , ولم ينقذهم إلاَّ نخبة من عظماء مفكرى مصر الذين صمدوا لهذا الفكر الوافد , وكشفوا عن كثير من عوراته ونقائصه أيضًا , وكان فى مقدمة هؤلاء عملاق الأدب العربى الأستاذ « العقاد » , فمثل لجيلهم طوق النجاة , وأعاد لهم الثقة فى أنفسهم وفى تراثهم وحضارتهم , وكان له فضل السبق والترصد لهذه المذاهب الوافدة وتحطيم أصنامها , وسار على منواله الدكتور محمد البهى بعد أن ترك وزارة الأوقاف , والسيد محمد باقر الصدر بالعراق , وما كتبه آنذاك الأستاذ سيد قطب عن عدالة الإسلام الاجتماعية التى تقف دونها الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية فى الشيوعية والاشتراكية حاسرة الأطراف , ولمن لا يعرفون ـ فإن الأستاذ سيد قطب لم يبدأ توجهه المأخوذ عليه إلاَّ متأخرًا بعد سنوات ، فقد بدأ حياته شاعرًا وأديبًا وقصَّاصًا ، معتدل الفكر ، وكان من تلاميذ ومحبى الأستاذ العقاد ، والأستاذ العلامة محمود شاكر ، ولا يجوز فى المنهج العلمى إنكار ولا إخفاء دوره السابق فى مقاومة المد الشيوعى ، إلاَّ أن هناك من أرادوا أن يقيموا الدنيا ولا يقعدوها لمجرد ذكر اسمه ضمن عدة أسماء فى إطار حقيقة تاريخية لا ينبغى أن يحول اتجاهه السياسى اللاحق دون ذكرها .

زر الذهاب إلى الأعلى