من تراب الطريق (1194)
الإمام الطيب والقول الطيب (26)
بقلم: الأستاذ رجائى عطية نقيب المحامين
ما المقصود بالتجديد ؟
ـــــ
سرعان ما يثير طلاب الخلاف ، الراغبون فى اللجاجة والمماراة ، ما هو المقصود بالتجديد ، ويذهب كل منهم مذهبًا قد يصيب وقد لا يصيب ، ويفسر بعض الأقدمين التجديد بأنه العودة إلى العمل بالكتاب والسنة ، وإزالة ما غشيها من البدع والضلالات ، فهل هذا المعنى البسيط هو كل ما يتغيا « المؤتمر » مناقشته وبحثه ، تاركًا المشكلات المعاصرة دون بحث ولا علاج ولا تحديد للموقف الشرعى إزاءها ؟!
يطرح فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب ، هذا السؤال ، ليجيب عليه بأن المطلوب الآن هو « إمعان النظر فى نصوص القرآن والسنة والأحكام الفقهية وإعادة قراءتها قراءة ملتزمة بكل القواعد التى حرص عليها أئمة التفسير والحديث والأصول ، بهدف تحديد الموقف الشرعى من القضايا المعاصرة الملحة التى تتطلب حلاًّ شرعيًّا يطمئن إليه العلماء والمتخصصون » .
قائمة مقترحة
وطرح فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب ، ما أجاب به من نحو عشر سنوات ، فى المؤتمر السابق عن التجديد ، من وجوب إعداد « قائمة إحصائية بكبريات القضايا التى تطرح نفسها على الساحة الآن » ، والتى رأى فيها أن تكون الأولوية للقضايا التى شكلت مبادئ اعتقادية عند جماعات التكفير والعنف والإرهاب المسلح ، وهى على سبيل المثال لا الحصر قضايا : الجهاد ـ الخلافة ـ التكفير ـ الولاء والبراء ـ تقسيم المعمورة وغيرها .
ولا يقال ـ فيما أبدى فضيلته ـ إن معظم هذه القضايا قد طرح من قبل فى مؤتمرات عدة فى الأزهر وغير الأزهر ، لأن المطلوب فى المؤتمر ، هو إعلان بيان أو وثيقة تصدر بإجماع علماء المسلمين ، أو إجماع ممثلين لعلماء العالم الإسلامى ، وعلى أن يترجم البيان إلى كل اللغات الحية .
ومع توضيح الأسس التى تتغيا اجتهادًا جماعيًّا لا فرديًّا ، مع تنوع الاختصاصات العلمية ، وتشابك القضايا بين علوم عدة ، أبدى فضيلته ضرورة تمثيل المجامع الفقهية ، ومعاودة عقد هذا المؤتمر كل عام لمراجعة ما يستجد على الناس فى حياتهم ، وما يطرأ من أقضيات ، وملاحقة متطلبات العصر .
وفى محاضرة ألقاها الإمام الطيب فى 2 صفر 1437 هـ الموافق 14 نوفمبر 2015م ، وجه دعوة إلى التجديد والاجتهاد ، قدم لها بأنه منذ تشكل وعيه فى الأزهر الشريف ، لاحظ من آثار الدراسة التى تلقاها ، هذا التناغم البديع بين الدنيا والآخرة ، والكون والإنسان ، والروح والمادة ، وغير ذلك من الثنائيات التى لا يزال إنسان القرن الواحد والعشرين ، يقف إزاءها فاقدًا لتوازنه ، متعثرًا فى خطواته ، مستقطبًا بين طرفيها إمّا إلى أقصى اليمين وإمّا إلى أقصر اليسار .
وحين تقدمت به السنون ، وعى من هذه الآثار درسًا لا يُزايل ذاكرته حتى هذه اللحظة ، فحواه : أن الذين قادر على أن ينشئ من الحضارات الإنسانية والمادية ، ما لا يستطيع أن ينشئه أى نظام اجتماعى آخر وتبين له رغم تواضع معلوماته ـ فيما يقول ـ فى التاريخ الفرعونى ـ أن الدين هو الذى بعث فى هذه الحضارة نهضة مدهشة غير مسبوقة فى علوم الطب والهندسة والعمارة والكيمياء والرى والفلك والتحنيط ، وأثار فى مسيرتها الحضارية علومًا ومعارف لا تزال حتى يوم الناس هذا لغزًا ، أو سرًّا من الأسرار ، حير المتخصصين من علماء الغرب ، حتى أنشؤوما قسمًا فى جامعاتهم الغربية ، سموه قسم «المصريات» .
ومن اللافت للنظر فى أمر هذه الحضارة ؛ أن الدين كان هو المحرك الأول لنهضتها ، والباعث الأصيل لمسيرتها العلمية والفنية ، وأن هذه الحضارة جاءت بدورها ـ هى الأخرى ـ لتخدم الدين ، ولتحقق مطالبه ومقاصده النيوية والأخروية ؛ وهو لا لحظة فى أن هذه النزعات الدينية العميقة فى الحضارة الفرعونيةم هى بقايا بصمات من رسالات إلهيةم سابقة على هذه الحضارة ، أو بقايا شعاع من مشكاة النبوة تنوَّره المصريون القدماء من رسالات التوحيد التى سبقت حضارتهم وتقدمتها بآلاف السنين .
وقد أن أمر العلاقة بين الدين والحضارة مع الإسلام أكثر وضوحًا وأشد ارتباطًا ، حيث التقت فى رحابه شرائع الدين وضرورات الحياة وحاجات الناس ، وتصالحت فى شريعته السمحة ثنائيات طالما استعصت على الحل ، وتنافرت تنافر النقيضين فى أكثر العقائد والفلسفات التى سادت الناس قبل الإسلام وبعده أيضًا .
والدليل على ذلك أن المسلمين صنعوا حضارة راقية قامت على العلم والمعرفة والتجربة ، وسعد بها الناس شرقًا وغربًا ، تحت ظلال هذا الدين الحنيف ، ويحى من القرآن الكريم الذى ترددت كلمة « العلم » فى آياته البينات أكثر من سبعمائة مرة ، وكان العكس صحيحًا كذلك ، حين سجل التاريخ أن التراجع الحضارى الذى تردى فيه المسلمون فى القرون الأخيرة إنما كان بسبب الانصام البائس الذى حال بينهم وبين استلهام التوجيه الحضارى الكامن فى ثنايا نصوص الوحى ، استلهامًا صحيحًا .
وقد ثبت تاريخيًّا أن المسلمين حين أبدعوا وتحضروا وصدروا ذلك للعالم ، كانوا يسندون ظهورهم إلى نصوص القرآن والسنة وصحيح الدين وتوجيهات الإسلام ، وأنهم تراجعوا حين حِيل بينهم ، أو حالوا هم أنفسهم بينهم وبين مصادر القوة فى هذا الدين ، وهذه مفارقة أو مقارنة لا ينبغى إغفالها فى تميّز الإسلام وقدرته الخارقة على صنع مجتمعات غاية فى الحضارة العلمية والثقافية والفنية ، وأن حضارة المسلمين مرتبطة بالإسلام ارتباط معلول بعلّته ، توجد حين يوجد الإسلام ، وتتلاشى حين ينحسر أو يغيب .