من تراب الطريق (1192)
الإمام الطيب والقول الطيب (24)
نشر بجريدة المال الأحد 3/10/2021
ـــ
بقلم: الأستاذ رجائى عطية نقيب المحامين
ـــــــــ
ضرورة التجديد المعاصر
يشير فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب ، فى بحثه هذا القيم عام 2001 ، إلى أنه لمعت فى سماء تاريخنا المعاصر , فرصة لتجديد حقيقى يضع أقدامنا على طريق نهضة إسلامية حقيقية , اضطلع بها رعيل من المجددين المحدثين والمعاصرين , ممن حملوا شعلة التجديد , منهم ـ تمثيلاً لا حصرًا ـ جمال الدين الأفغانى , ومحمد عبده , وسار فى دربها مجددون فى مصر والهند وتركيا والعراق وإيران وسوريا وبلاد المغرب .
ورغم أن حركات التجديد هذه ـ قد أحرزت بالفعل نجاحات عديدة , إلاَّ أنها لم تنجح فى تفعيل الفكر الإسلامى بحيث يواكب مستجدات الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية , بل آلت الحركة فى النهاية إلى حالة من الوهن والضعف انعكست آثارها مؤخرًا على كل بلاد الشرق الإسلامى !
وقد ازدادت حدة الغزو الثقافى الغربى عما كانت عليه فى أوائل القرن الماضى , وحتى منتصفه , ولم يعد هذا الغزو يترك هامش أمان من ثقافة إسلامية تقليدية يحتمى بها المسلم من أشباح الضياع والاغتراب .
وربما كان هذا الغزو الثقافى الغربى محصورًا بين الوجهاء والبعثات التعليمية القليلة العدد , أو النخب المرفهة القادرة على تمضية الأجازات فى الغرب وعلى شواطئه , إلاَّ أنه بسبب الطفرة الهائلة فى تكنولوجيا الاتصال , تحطمت الحدود والحواجز , وسهل على الغرب أن يخترق بثقافته وسلوكياته المجتمع المسلم والأسرة المسلمة , وهو اختراق متجدد ومدروس بفلسفة استعمارية جديدة اتخذت « العولمة » عنوانًا وشعارًا لها .
ولا يعترض الإسلام على الانتشار الثقافى , إلاَّ أن هذه المواجهة الجديدة قد أحدثت مفارقات فى النظام الاجتماعى الإسلامى لم يُحسب حسابها من قبل , لأن زخمًا هائلاً من ثقافتنا لم يكن مؤسسًا على قيم وأصول إسلامية محررة , تؤهلها للتعامل مع هذا الوافد المكتسح , بقدر ما كانت أمشاجًا وأخلاطًا من عادات وأفكار تقليدية جامدة , أو أنماط منفلتة من ناحية أخرى .
وللأسف كانت القيم الإسلامية الأصيلة هى الغائب المفتقد دائمًا فى هذا الخليط غير المتجانس , وكما كانت صدمة الغرب فى القرن الماضى التى أشعلت لديهم فتيل التجديد , كانت العولمة , أو : « قانون المركز والأطراف » ـ هى الصدمة الكهربائية التى وضعتنا فى مواجهة جديدة , بل محنة من نوع جديد , تستلزم منا العودة الواعية إلى التراث وإعادة قراءته فى ظل القيم والمفاهيم الجديدة والمتجددة , ذلك أن التراث ـ مع التجديد ـ لا مفر منه للنهضة المرجوة التى تبقى فيها الأمة الإسلامية على قيد الحياة .
خطان متوازيان
والتجديد المنتظر للخطاب الإسلامى المعاصر , ينطلق ابتداءً وأساسًا من القرآن والسنة , ثم مما يتناسب مع خطاب العصر من واقع كنوز التراث وتجديده .
ولا يعنى هذا أن يكون الخطاب شموليًّا خاليًا من تعدد الآراء ووجهات النظر , وإنما المطلوب خطابٌ جديد خالٍ من « الصراع » ونفى الآخر وادعاء احتكار الحقيقة فى رأى , ومصادرتها ونفيها عن رأى آخر مماثل .
إن الانفتاح على الآخرين , علمانيين أو غيرهم , يستهدف استكشاف « عناصر التقاء » يمكن توظيفها فى تشكيل إطار ثقافى عام يفيد منه الإسلاميون قبل غيرهم , وبعيدًا
عن التنوير الزائف , خاصةً فى التغلب على المرض المزمن الذى يستنزف طاقة أى تجديد واعد , ويواجه التقسيم التقليدى إزاء « التراث والحداثة » , لتكريس تيار إصلاحى يتلافى تحويل المواجهة إلى صراع داخلى يترك الساحة خالية لمن يريدون سحق الجميع !
إن الذين لم يجدوا حرجًا فى الاستهزاء بالتراث والسخرية منه ، بدلاً من إعادة قراءته والتجديد فيه ، أدارت الجماهير ظهورها لهم ، ومن ثم زادوا الأمور إظلامًا على ظلام !
إن التيار الإصلاحى الوسطى ، فيما يقول ، هو التيار المؤهل لحمل الأمانة ، والجدير بمهمة « التجديد » الذى تتطلع إليه الأمور ، وهو القادر على تجديد الدين لا تشويهه أو إلغائه ، مع وجوب الالتفات إلى تفادى صراع الاستنزاف من اليمين ومن اليسار .
وأخيرًا ليس من هَمَّ هذه الدراسة أو الورقة كما يطيب لفضيلة الدكتور الطيب أن يسميها ، أن تتفاعل مع الغرب أو تتناغم مع ألحانه ، فما تزال تتمتع بكامل الصدق والواقعية ، الحكمة القائلة بأن « الغرب غرب ، والشرق شرق ، ولن يلتقيا » .
هَمُّ هذه الدراسة ، أو الورقة ، هو أولاً وأخيرًا « ضرورة التجديد » ، بحثًا عن : مَنْ
نحن ؟ ومَنْ الآخر ؟ وكيف نحاوره ولا نصارعه ! فى رحاب انطلاقة موفقة فى مجال التجديد تجسر بها الفجوة بين الإسلام والعصر ، وبين الفكر الإسلامى وحضارات العصر المختلفة .
عاود الأستاذ الدكتور أحمد الطيب ، رئيس جامعة الأزهر آنذاك ، المحاضرة فى « ضرورة التجديد » ، فى مؤتمر « اتجاهات التجديد والإصلاح » ، الذى عقد بمكتبة الإسكندرية فى 18 يناير 2009 ، فزاد ما كان قد تحدث فيه عام 2001 بيانًا وتوضيحًا ، وزاد فى بيان المراجع التى تتحدث فى مفهوم تجديد الدين ، وذكر بأن من عظمة حضارتنا الآخذة في التراجع ، أن مؤرخين غربيين وصفوا حضارة العالم التى استمرت نحو أربعة آلاف سنة ، وكانت مشرفة على الزوال حين ظهر الإسلام فمثل الإسلام المدد الذى أمد العروق الجافة بالدماء ، وقال أحد هؤلاء فى وصف الثقافة التى أتى بها الإسلام ، بأنه « مما يبعث على الدهشة أن تقوم ثقافة كهذه فى جزيرة العرب فى نفس الوقت الذى اشتدت فيه الحاجة إليها ، ووجدت هذه الثقافة الجديدة فى مبدأ التوحيد أساسًا لوحدة العالم كله » .
وركز الدكتور الطيب فى دراسته على أن « ضرورة التجديد » الذى يتفق مع جوهر الإسلام ، لا تقتصر على علم الفقه ، وإنما يجب أن يشمل التجديد كل ما يهم المسلمين فى أمور الدنيا والدين ، وكل ما يتصل بقوانين الحروب والسياسة وحقن الدماء ، ورفض ما تنادى به الفقهاء بعد القرن الخامس الهجرى بغلق باب الاجتهاد ، فهى دعوة مغلوطة لا حجة لها ولا برهان عليها ، بل إن مواهب الله تعالى فياضة فى كل عصر وزمان ، وجوده دائمًا ممنوح غير ممنوع ، مشيرًا إلى ما كتبه السيوطى (1445/1505 م ) فى كتابه « الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد فى كل عصر فرض » ، وإلى ما ورد فى الباب الرابع عشر من هذا الكتاب عن « وسيلة المجددين » ، وحذر من أن الساحة الثقافية آنذاك لا تزال تتوجه إلى القشور ، تاركة الجوهر واللباب ، وتخالف قائمة الأولويات حتى صارت راية هذه القائمة منكسة بعد أن انقلبت إلى نقيض ما يفرضه العقل والظروف من تقديم الأهم على المهم ناهيك عن غير المهم ، والاهتمام باللب لا بالقشور . داعيًا مكتبة الإسكندرية للقيام بدور فعال لانطلاقة موفقة فى مجال التجديد ، تملأ الفجوة التى صارت بين الإسلام والعصر ، وبين الفكر الإسلامى وحضارات العصر المختلفة .