من تراب الطريق (1178)

الإمام الطيب والقول الطيب(10)

نشر بجريدة المال الأثنين 13/9/2021

بقلم:  الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين

 

يستطيع القارئ أن يدرك من مجمل أحاديث ومحاضرات وكلام الإمام الأكبر الدكتور الطيب ـــ مدى اهتمامه بالإسلام الوسطى الصحيح ، وبوحدة الأمة الإسلامية لتستعيد ما كانت عليه من قوة وحضارة وتواصل معطاء مع الإنسانية .

وهو هنا يتحدث عن « أهل السنة والجماعة » ، وكان ذلك فى محاضرة ألقاها بالعاصمة الشيشانية جروزنى فى 23 من ذى القعدة 1437 هـ ، الموافق 26 أغسطس 2016 م . فى إفتتاح مؤتمر هناك عن أهل السنة والجماعة ، والانتصار لها لما فيها من وحدة الأمة ، هو قضية القضايا للأزهر الشريف وللإمام الطيب .

فقد مثَّلَ « مفهوم أهل السنة والجماعة فى قاعدة ثابتة بعثت على التألق العلمى والحضارى لهذه الأمة وألهمت علماءها وأئمتها ، فى كل ما يصدر عنهم من أنظار فى العقيدة ، وفتاوى فى الفقه والتشريع ، وإبداعات فى مجال الفنون ، وإشراقات فى مجال الآداب ، وكانت من الحضور المستمر والتمكن العميق فى شعور الأمة ووجدانها بحيث استطاعت أن تحميها بسياج منيع من أخطار التشرذم والتشتت والشقاق ، وأن تكون لها ردءًا تدفع بع عوادى الاختراق والاستلاب ، ويذكرهـم صبـاح مسـاء بقولـه تعالـى : « وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَت اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ »

( آل عمران 103 ) . وبقوله تعالى : « وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ » ( الأنفال 46 ) .

ومن المؤلم أشد الألم أن هذا المفهوم الذى كان يدور عليه أمر هذه الأمة قرونًا متطاولة ــ نازعته فى الآونة الأخيرة دعاوى وأهواء ، مزقته وعبثت بحرمته أشد العبث ، بعد ان خرجت على أصوله وقواعده ، وألصقت به ـ مما هو غريب عنه ــ ما جعل منه مفهومًا ملتبسًا فى أذهان العامة من المسلمين ، ومضطربًا ، بل شديد الإضطراب عند كثير ممن يتصدون للدعوة والإرشاد بين الناس ، ولا يكاد يبين لهم بعض من معالم هذا المفهوم حتى تنبهم عليهم قوادكه وخوافيه ، وحتى يصبح نهبًا تتخطفه دعوات ونحل وأهواء ، كلها ترفع لافتة مذهب « أهل السنة والجماعة » ، وتزعم أنها وحدها المتحدث الرسمى باسمه ، حتى تمزق هذا المفهوم الذى كانت تدور عليه وحدة المسلمين على مدى تاريخهم ، وأصبح ــ منذ قرنين أو أكثر ــ عامل هدم وتقويض وتشتت وفرقة بين أبناء الأمة الواحدة .

وبديهى أن يتصادم الناس حين تتصادم تفسيرات هذا المفهوم .

وطبيعى أن تفتح التفسيرات المتصادمة الأبواب للتشدد والتطرف والإرهاب ، وما يقارف من قتل وذبح وسفك للدماء وهتك للأعراض .

وقد كان من أمر هذا التصادم والصراع أن أتاح للمتربصين من غير المسلمين ومن تاهت منهم الحقيقة من المسلمين ، لتصويب سهامهم وطعناتهم نحو مفهوم أهل السنة والجماعة ، وتشويهه طمعًا فى إزاحته بزعم أنه المسئول عن الإرهاب والتكفير .

وهؤلاء الأدعياء المفترون هم أول من يعرف إنعدام صلة جماعات التكفير بأهل السنة والجماعة ومذهبهم ، ويتجاهلون ما يعرفوه لأنهم وراء مآربهم فى التمكين لهم فى الأرض والعباد بغير حق .

ومذهب أهل السنة والجماعة أوضح من أن يحتاج إلى إيضاح .

وقد سبق أن نقلت لك حديث الأمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب عن أهل السنة والجماعة ، ومذهبهم ، وعن الأمام الأشعرى ، والإمام الماتريدى .

وأول ما تعلموه عن شيوخهم فى المرحلة الإبتدائية بالأزهر ، على « شرح الخريدة » لأبى بركات ، أن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية .

ثم تعلموا فى المرحلة الثانوية أن أهل الحق هم « أهل السنة والجماعة » ، وأن هذا المصطلح يطلق على أتباع الإمام الأشعرى والإمام الماتريدى ، ودرسـوا ذلك علـى كتاب

« عمدة المريد شرح جوهرة التوحيد » للإمام برهان الدين اللقانى المتوفى 1041 هـ . فى شرح منظومته المسماة « جوهرة التوحيد » .

وأول ما صافح عقولهم فى كلية أصول الدين « مادة التوحيد » ، وأول ما صادفوه عبارة الإمام النسقى فى « عقائده » : « قال أهل الحق : حقائق الأشياء ثابتة ، والعلم بها متحقق خلافًا للسوفسطائية . أما أهل الحق فقد أجمع الشراح وأصحاب الحواشى على أنهم أهل السنة والجماعة » .

ثم علموا من أبحاثهم فى الدراسات العليا أن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية ، وأهل الحديث ، ولم يخرج فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة من عباءة هذا المذهب .

هذا المفهوم ــ بهذا العموم الذى يشمل كل أئمة المسلمين والأغلبية الغالبة من المتكلمين والفقهاء والمحدثين وأهل التصوف والإرشاد ، وأهل النحو واللغة والأدب ــ أكده قدماء الأشاعرة أنفسهم منذ البواكير الأولى لظهور هذا المصطلح بعد وفاة الإمام أبى الحسن على بن إسماعيل الأشعرى ، وشهد عليه جمهرة القدماء والمحدثين من علماء الإسلام ومفكريه .

 

زر الذهاب إلى الأعلى